5 Janvier 2009
أن يشتاق أبداً إلى رؤية العلماء ويحرص على استماع نصحهم وأن يحذر من علماء السوء الذين يحرصون على الدنيا فإنهم يثنون عليك ويغرونك ويطلبون رضاك طمعاً فيما في يديك من خبث الحطام ووبيل الحرام ليحصلوا منه شيئاً بالمكر والحيل
والعالم هو الذي لا يطمع فيما عندك من المال ومنصفك في الوعظ والمقال.
كما يقال أن شقيقاً البلخي دخل على هارون الرشيد فقال له: أنت شقيق الزاهد فقال: أنا شقيق ولست بزاهد.
فقال له: أوصني.
فقال: إن الله تعالى قد أجلسك مكان الصديق وأنه يطلب منك مثل صدقة وأنه أعطاك موضع عمر بن الخطاب الفاروق وأنه يطلب منك الفرق بين الحق والباطل مثله وأنه أقعدك موضع عثمان بن عفان ذي النورين وهو يطلب منك مثل حيائه وكرمه وأعطاك موضع علي بن أبي طالب وهو يطلب منك مثل العلم والعدل كما يطلب منه.
فقال له: زدني من وصيتك.
فقال: نعم.
اعلم أنا لله تعالى داراً تعرف بجهنم وأنه قد جعلك بواب تلك الدار وأعطاك ثلاثة أشياء بيت المال والسوط والسيف وأمرك أن تمنع الخلق من دخول النار بهذه الثلاثة فمن جاء محتاجاً فلا تمنعه من بيت المال ومن خالف أخر ربه فأدبه بالسوط ومن قتل نفساً بغير حق فاقتله بالسيف بإذن ولي المقتول فإن لم تفعل ما أمرك فأنت الزعيم لأهل النار والمتقدم إلى البوار.
فقال له: زدني.
فقال: إنما مثلك كمثل معين الماء وسائر العلماء في العالم كمثل السواقي فإذا كان المعين صافياً لا يضر كدر السواقي وإذا كان المعين كدراً لا ينفع صفاء السواقي.
حكاية: خرج هارون الرشيد والعباس ليلاً زيارة الفضيل بن عياض فلما وصلا إلى بابه وجداه يتلو هذه الآية: (أم حسب الذين إجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات)، ومعناها: أيظن الذين اكتسبوا الخطايا ويعملون الأعمال المذمومة أن نسوي بينهم في الآخرة وبين الذين يعملون الخيرات وهم مؤمنون.
كلا ساء ما يحكمون.
فقال هارون: إن كنا جئنا للموعظة فكفى بهذه موعظة.
ثم أمر العباس أن يطرق عليه الباب فطرق بابه فقال: افتح الباب لأمير المؤمنين.
فقال الفضيل: ما يصنع عندي أمير المؤمنين فقال: أطِع أمير المؤمنين وافتح الباب.
وكان ليلاً والمصباح يتقد فأطفأه وفتح الباب فدخل الرشيد وجمل يَطوف بيده ليصافح بها الفضيل فلما وقعت يده عليه قال: الويل لهذه اليد الناعمة إن لم تنج من العذاب في القيامة.
ثم قال له: يا أمير المؤمنين استعد لجواب الله تعالى فانه يوقفك مع كل واحد مسلم على حدة يطلب منك إنصافك إياه.
فبكى هارون الرشيد بكاء شديداً وضمه إلى صدره.
فقال له العباس: مهلاً فقد قتلته.
فقال الرشيد للعباس: ما جعلك هامان إلا وجعلني فرعون.
ثم وضع الرشيد بين يديه ألف دينار وقال له: هذه من وجه حلال من صداق أمي وميراثها.
فقال له الفضيل: أنا آمرك أن ترفع يديك عما فيها وتعود إلى خالقك وأنت تلقيه إليّ.
فلم يقبلها وخرج من عنده.
نكتة: سأل عمر بن عبد العزيز محمد بن كعب القرظي فقال: صف لي العدل.
فقال: كل مسلم أكبر منك سناً فكن له ولداً ومن كان أصغر منك فكن له أباً ومن كان مثلك فكن له أخاً وعاقب كل مجرم على قدر جرمه وإياك أن تضرب مسلماً سوطاً واحداً على حقد منك فإن ذلك يصيرك إلى النار.
نكتة: حضر بعض الزهاد بين يدي خليفة فقال له: عظني فقال: يا أمير المؤمنين إني سافرت الصين وكان ملك الصين قد أصابه الصمم وذهب سمعه فسمعته يقول يوماً وهو يبكي: والله ما أبكي لزوال سمعي وإنما أبكي لمظلوم يقف ببابي يستغيث فلا أسمع استغاثته ولكن الشكر لله إذ بصري سالم.
وأمر منادياً ينادي ألا كل من كانت له ظلامة فليلبس ثوباً أحمر.
فكان يركب الفيل فكل من رأى عليه ثوباً أحمر دعاه واستمع شكواه وأنصفه من خصمائه.
فانظر يا أمير المؤمنين إلى شفقة ذلك الكافر على عباد الله وأنت مؤمن من أهل بيت النبوة فأنظر كيف تريد أن تكون شفقتك على رعيتك.
نكتة: حضر أبو قلابة مجلس عمر بن عبد العزيز فقال له: عظني قال: من عهد آدم إلى وقتنا هذا لم يبق خليفة سواك.
فقال: زدني.
فقال: أنت أول خليفة يموت.
فقال: زدني.
فقال: إن كان الله معك فممن تخاف وإن لم يكن معك فإلى من تلتجىء.
قال: حسبي ما قلت.
حكمة: كان سليمان بن عبد الملك خليفة فتفكر يوماً وقال: قد تنعمت في الدنيا طويلاً فكيف حالي في الآخرة وأتى إلى أبي حازم وكان عالم أهل زمانه وزاهد أوانه وقال: أنفذ لي شيئاً من قوتك الذي تفطر عليه.
فأنفذ له قليلاً من نخالة وقد شواها فقال: هذا فطوري.
فلما رأي سليمان ذلك أفطر الليلة الثالثة على تلك النخالة المشوية فيقال إنه في تلك الليلة تغشى أهله فكان منها عبد العزيز وجاء منه عمر بن عبد العزيز.
وكان واحد زمانه في عدله وإنصافه وزهده وإحسانه وكان على طريقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل أن ذلك ببركة نيته وصيامه وأكله من ذلك الطعام.
نكتة: سئل عمر بن عبد العزيز: ما كان سبب توبتك قال: كنت أضرب يوماً غلاماً فقال لي: اذكر الليلة التي تكون صبيحتها القيامة فعمل ذلك الكلام في قلبي.
نكتة: رأى بعض الأكابر هارون الرشيد في عرفات وهو حافٍ حاسر قائم على الرمضاء الحارة وقد رفع يديه وهو يقول: إلهي أنت أنت وأنا أنا الذي دأبي كل يوم أعود إلى عصيانك ودأبك أن تعود إليّ برحمتك.
فقال بعض الكبراء: انظروا إلى تضرع جبار الأرض بين يديّ جبار السماء.
نكتة: سأل عمر بن عبد العزيز يوماً حازم الموعظة فقال له أبو حازم: إذا نمت فضع الموت تحت رأسك وكل ما أحببت أن يأتيك الموت وأنت عليه مصرّ فالزمه وكل مالا تريد أن يأتيك الموت وأنت عليه فاجتنبه فربما كان الموت منك قريباً.
فينبغي لصاحب الولاية أن يجعل هذه الحكاية نصب عينيه وأن يقبل المواعظ التي وعظ بها
غيره فكلما رأى علماً سأله أن يعظه وينبغي للعلماء أن يعظوا الملوك بمثل هذه المواعظ ولا يغرّوهم ولا يدّخروا عنهم كلمة الحق وكل من غرّهم فهو مشارك لهم والله
سبحانه وتعالى أعلم
التبر المسبوك في نصيحة الملوك لحجة الإسلام أبو حامد الغزالي الطوسي الشافعي