6 Janvier 2009
وأما حال سائر الأندلس بعد اختلال دعوة بني أمية فإن أهلها تفرقوا فرقاً وتغلب في كل
جهة منها متغلب وضبط كل متغلب منهم ما تغلب عليه وتقسموا ألقاب الخلافة فمنهم من تسمى بالمعتضد وبعضهم تسمى بالمأمون وآخر تسمى بالمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والموفق والمتوكل إلى غير ذلك من
الألقاب الخلافية وفي ذلك يقول: أبو علي الحسن بن رشيق: مما يزهدني في أرض أندلس سماع مقتدر فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد! وأنا ذاكر إن شاء الله في هذا الفصل
أسماءهم والجهات التي تغلبوا عليها على نحو ما شرطت من الإجمال إذ لكل منهم أخبار وسير ووقائع لو بسطت القول فيها خرج هذا التصنيف عن حد التلخيص إلى حيز الإسهاب و أيضاً فالذي منعني عن استيفاء أخبارهم
أو أخبار أكثرهم قلة ما صحبني من الكتب واختلال معظم محفوظاتي
(وَيَحمِلُ عَرشَ رَبِّكَ فَوقَهُم يَومَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) والقول بجواز حذف التاء في مثل ذلك
فأولهم في الربع الشرقي رجل اسمه سليمان بن هود تلقب بالمؤتمن وتلقب ابنه بالمقتدر وتلقب ابنه بالمستعين
كان بنو هود هؤلاء يملكون من مدن هذه الجهة الشرقية طرطوشة وأعمالها وسرقسطة وأعمالها وأفراغة ولا ردة وقلعة أيوب هذه اليوم كلها بأيدي الإفرنج يملكها صاحب برشنونة - - لعنه الله - - وهي البلاد التي
تسمى أرغن حد هذا الاسم آخر مملكة البرشنوني مما يلي بلاد إفرنسة
ويجاور بني هود هؤلاء رجل آخر اسمه عبد الملك بن عبد العزيز يكنى أبا مروان قديم الرياسة هو أحق ملوك الأندلس بالتقدم لشرف بيته ولا أعلم له لقباً كان يملك بلنسية وأعمالها
وكان يلي الثغر رجل آخر يقال له أبو مروان بن رزين كان يملك إلى أول أعمال طليطلة
وكان الذي يملك طليطلة وأعمالها الأمير أبو الحسن يحيى بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن عامر بن مطرف بن موسى بن ذي النون
وأبو الحسن هذا أقدم ملوك الأندلس رياسة واشرفهم بيتا وأحقهم بالتقدم تلقب بالمأمون كان أبوه إسماعيل هو الذي تغلب على طليطلة من قبل واستبد بملكها أول الفتنة
ولم يزل أبو الحسن هذا يملك طليطلة وأعمالها كما ذكرنا إلى أن أخرجه عنها الأدفنش - - لعنه الله - - واستولى عليها النصارى في شهور سنة 478 فهي قاعدة ملك النصارى إلى وقتنا هذا
وكان يملك قرطبة وأعمالها إلى أول الثغر جهور بن محمد بن جهور المتقدم ذكره ونسبه إلى أن غلبه عليها صاحب طليطلة إسماعيل بن ذي النون والد أبي الحسن المذكور آنفاً
وكان يملك أشبيلية وأعمالها القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي تغلب عليها بعد أن أخرج عنها القاسم بن حمود وابنيه محمداً والحسن على ما سيأتي الإيماء إليه إن شاء الله عز وجل.
وكان يملك مالقة والجزيرة وغرناطة وما والى ذلك البربر بنو برزال الصنهاجيون على ما قدمناه
وتغلب على المرية وأعمالها زهير العامري الخادم ثم ملكها بعده خيران العامري أيضاً الخادم
وأنشدني - رحمه الله - وقال: احفظ عني: إني نظرت إلى المرآة إذ جليت=فأنكرت مقلتاي كل
ما رأتا رأيت فيها شيخاً لست أعرفه=وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى هذا ما أنشدني لنفسه بلفظه - رحمه الله - وله شعر كثير أجاد في أكثره وأما الموشحات خاصة فهو الإمام المقدم فيها وطريقته هي الغاية المقصوى
التي يجري كل من بعده إليها هو آخر المجيدين في صناعتها ولولا أن العادة لم تجر بإيراد الموشحات في الكتب المجلدة المخلدة لأوردت له بعض ما بقي على خاطري من ذلك
ثم رجع بنا القول إلى ذكر أحوال الأندلس فهؤلاء الرؤساء الذين ذكرنا أسماءهم هم الذين ملكوا الأندلس بعد الفتنة وضبطوا نواحيها واستبد كل رئيس منهم بتدبير ما تغلب عليه من الجهات وانقطعت الدعوة للخلافة
وذكر اسمها على المنابر فلم يذكر خليفة أموي ولا هاشمي بقطر من أقطار الأندلس خلا أيام يسيرة دعي فيها لهشام المؤيد بن الحكم المستنصر بمدينة أشبيلية وأعمالها حسبما اقتضته الحيلة واضطر اليد التدبير ثم
انقطع ذلك حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى فأشبهت حال ملوك الأندلس بعد الفتنة حال ملوك الطوائف من الفرس بعد قتل دارا بن دارا
ولم يزالوا كذلك وأحوال الأندلس تضعف وثغورها تختل ومجاوروها من الروم تشتد أطماعهم ويقوى تشوفهم إلى أن جمع الله الكلمة ورأب الصدع ونظم الشمل وحسم الخلاف وأعز الدين وأعلى كلمة الإسلام وقطع طمع العدو
بيمن نقيبة أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب يوسف بن تاشفين اللمتوني - رحمه الله - ثم استمر على ذلك ابنه علي وأعادا إلى الأندلس معهود أمنها وسالف نضارة عيشها فكانت الأندلس في أيامهما حرماً
آمناً وأول دعاء دعي للخلافة العباسية أبقاها الله على منابر الأندلس في أيامهما ولم تزل الدعوة العباسية وذكر خلفائها على منابر الأندلس والمغرب إلى أن انقطعت بقيام ابن تومرت مع المصامدة في بلاد
السوس على ما يأتي بيانه إن شاء الله عز وجل
ثم ولي ما كان يليه بعده من أمور أشبيلية وأعمالها ابنه أبو عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد فجرى على سنن أبيه في إيثار الإصلاح وحسن التدبير وبسط العدل مدة يسيرة ثم بدا له أن يستبد بالأمور وحده
وكان شهماً صارماً حديد القلب شجاع النفس بعيد الهمة ذا دهاء وواتته مع هذا المقادير فلم يزل يعمل في قطع هؤلاء الوزراء واحداً واحداً فمنهم من قتله صبراً ومنهم من نفاه عن البلاد ومنهم من أماته خمولاً
وفقراً إلى أن تم له ما أراده من الاستبداد بالأمر وتلقب بالمعتضد بالله
وقيل إنه ادعى أنه وقع إليه هشام المؤيد بالله ابن الحكم المستنصر بالله وكان الذي حمله على تدبير هذه الحيلة ما رآه من اضطراب أهل أشبيلية وخاف قيام العامة عليه لأنهم سمعوا بظهور من ظهر من أمراء بني
أمية بقرطبة كالمستظهر والمستكفي والمعتد فاستقبحوا بقاءهم بغير خليفة وبلغه أنهم يطلبون من أولاد بني أمية من يقيمونه فادعى ما ادعاه من ذلك وذكر أن هشاماً عنده بقصره وشهد له خواص من حشمه وأنه في
صورة الحاجب له المنفذ لأموره وأمر بالدعاء له على المنابر فاستمر ذلك من أمره سنين إلى أن أظهر موته ونعاه إلى رعيته في سنة 455 واستظهر بعهد عهده له هشام المذكور فيما زعم وأنه الأمير بعده على جميع
جزيرة الأندلس
ولم يزل المعتضد هذا يدوخ الممالك وتدين له الملوك من جميع اقطار الأندلس وكان قد اتخذ خشباً في ساحة قصره جللها برؤس الملوك والرؤساء عوضاً عن الأشجار التي تكون في القصور وكان يقول: في مثل هذا
البستان فليتنزه
وجملة أمر هذا الرجل أنه كان أوحد عصره شهامة وصرامة وشجاعة قلب وحدة نفس كانوا يشبهونه بأبي جعفر المنصور من ملوك بني العباس كان قد استوى في مخافته ومهابته القريب والبعيد لا سيما منذ قتل ابنه واكبر
ولده المرشح لولاية عهده صبراً وكان سبب ذلك أن ولده المذكور - وكان اسمه إسماعيل - كان يبلغه عنه أخبار مضمونها استطالة حياته وتمنى وفاته فيتغاضى المعتضد ويتغافل تغافل الوالد إلى أن أدى ذلك التغافل
إلى أن سكر إسماعيل المذكور ليلة وتسور سور القصر الذي فيه أبوه في عبدان وأراذل معه ورام الفتك بأبيه فانتبه البوابون والحرس فهرب أصحاب إسماعيل واخذ بعضهم فأقر وأخبر بالكائنة على وجهها
وفي إمارة المعتضد بالله هذا نزل لمتونة ومسوفة قبيلتان عظيمتان من البربر رحبة مراكش فتخيروها دار ملكهم لتوسطها البلاد وكانت إذ نزلوها غيظة لا عمران بها وإنما سميت بعبد أسود كان يستوطنها يخيف
الطريق اسمه مراكش فاستوطنها البربر كما ذكرنا وقدموا عليهم رجلاً منهم اسمه تاشفين بن يوسف
وكان المعتضد في كل وقت يستطلع أخبار العدوة هل نزل البربر رحبة مراكش وذلك لما كان يراه في ملحمة كانت عنده أن هؤلاء القوم خالعوه أو خالعو ولده ومخرجوه من ملكه فلما بلغه نزولهم جمع ولده وجعل ينظر
إليهم مصعداً ومصوباً ويقول يا ليت شعري من تناله معرة هؤلاء القوم أنا أو أنتم؟ فقال: له أبو القاسم من بينهم جعلني الله فداك وأنزل بي كل مكروه يريد أن ينزله بك! فكانت دعوة وافقت المقدار
وكان نزول لمتونة ومسوفة قبيلتي المرابطين رحبة مراكش في صدر سنة وانفصالهم عنها جملة واحدة في وسط سنة 540 فكانت مدة إقامتهم في الملك منذ نزلوا رحبة مراكش إلى أن انفصلوا عنها وأخرجهم عنها المصامدة
نحواً من ست وسبعين سنة
ثم توفي المعتضد بالله في شهر رجب من سنة 464 واختلف في سبب وفاته فقيل إن ملك الروم سمه في ثياب أرسل بها إليه وقيل إنه مات حتف أنفه فالله أعلم
ثم قام بالامر من بعده ابنه أبو القاسم محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد وزاد إلى المعتمد على الله الظافر بحول الله وكان المعتمد هذا يشبه بهارون الواثق بالله من ملوك بني العباس ذكاء نفس
وغزارة أدب وكان شعره كأنه الحلل المنشرة واجتمع له من الشعراء وأهل الأدب ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك الأندلس وكان مقتصراً من العلوم على علم الأدب وما يتعلق به وينضم إليه وكان فيه مع هذا من
الفضائل الذاتية مالاً يحصى كالشجاعة والسخاء والحياء والنزاهة إلى ما يناسب هذه الاخلاق الشريفة وفي الجملة فلا أعلم خصلة تحمد في رجل إلا وقد وهبه الله منها أوفر قسم وضرب له فيها بأوفى سهم وإذا عدت
حسنات الأندلس من لدن فتحها إلى هذا الوقت فالمعتمد هذا أحدها بل أكبرها.
ولي أمر أشبيلية بعد أبيه وله سبع وثلاثون سنة واتفقت له المحنة الكبرى بخلعه وإخراجه عن ملكه في شهر رجب الكائن في سنة فكانت مدة ولايته إلى أن خلع وأسر عشرين سنة كانت له في أضعافها مآثر أعيا على
غيره جمعها في مائة سنة أو أكثر منها كانت له - رحمه الله - همة في تخليد الثناء