النخبة والجمهور في السياسة السلطانية من خلال المسند لإبن مرزوق
30 Octobre 2008
Rédigé par Abdelkader HADOUCH عبد القادر حادوش et publié depuis
Overblog
يعتبر كتاب المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي
الحسن لمؤلفه إبن مرزوق محمد التلمساني، من الكتب الكلاسيكية التي كتبت في التاريخ الإسلامي، لشرعنة سلطة مركزية والمساهمة كجناح ثاني في السلطة في خدمة الدولة وعلى رأسها السلطان. فالكتاب نظري
وتاريخي، يمثل الوثيقة الدالة على نهج السلطان وسياسته في مجالات متعددة كالإقتصاد والإدارة والإجتماع وغيرها، لذا فإن خطيب السلطان يكتب بصورة إنتقائية كمشارك وممثل لفئة العلماء المقربين، لأنه شاهد
في نفس الوقت على ما يجري داخل السلطة المركزية، بحكم توجهه فإن مقارنة الواقع والممارسة بمفاهيم السياسة السلطانية المتعارف عليها بين الفقهاء ذوي المذهب الواحد كانت قياسا مبتورا ولكن المقارنة
إستعملت كتبرير لما قام به السلطان المريني أبو الحسن. هذه هي الثنائية التي نجدها في الكتاب، وقد تخللته كعملية يهدف منها صاحبها الى شرعنة الحاصل سياسيا وعسكريا -خلافة السلطان- وإبراز
أحقيته وأهليته وإمارته وانفراده بين السلاطين من دولته السابقين. لقد عمد إبن مرزوق في بداية كتابه إلى ما يمكن تسميته بالخطاب المشرقي السياسي، وفيه يستعرض ويعيد سرد مفهوم السياسة السلطانية في ستة
فصول ضمنها الإختلافات بين الفقهاء في شرح قواعد الحكم ومستلزماته الشرعية والقانونية والأخلاقية، وما يتصل به من واجبات اتجاه المجتمع بكل طوائفه وطبقاته، وكذا الإختلافات بين أهل الحل والعقد من علماء
كلام وفقهاء سنة في تحديد شروط الخلافة وتعريفهم للإمامة، وبعد أن استعرض مواقف الاتجاهات الكبرى في الفكر السياسي الإسلامي من أشاعرة ومعتزلة وغيرهم، وصل إلى خلاصة مفادها أن السلطان المريني أبي الحسن
صارت إليه الخلافة بإجماع أهل العدوتين، مؤكدا أن الشوكة والغلبة أو العجز عن مقاومة الثائرين عن السلطة لا تعني بالضرورة المقياس الصحيح لتحديد الخلافة، كما حصل للسلطان أبي الحسن المريني في حصار
القيروان، إذ هاجمه فقهاء بجاية، وتنكرو لخلافته، ومن هنا فإن البيعة هي التي تحدد الخليفة وتبقى سارية، ما دام الخليفة يتحمل مسؤولياته الدينية والدنيوية، أي أن الحوادث العارضة والمستجدات الإقتصادية
والإجتماعية وما قد يعيق السير العادي للحياة العامة لا تدخل كمعايير تقييمية للبيعة ما دام السلطان يتحمل ويطبق إستراتيجية الخلافة، وإبن مرزوق بهذه المقولات النظرية يقدم صورة عن التوجه الذي يؤمن به
في مجال نظرية الحكم في الإسلام، ليخلص إلى أن بني مرين أحسن قياما وتمثيلية للخلافة السنية طبقا لقوانين الشريعة، وأن سيرة أبي الحسن صورة فعلية على ذلك، ويكون إبن مرزوق بهذه الطريقة قد وفق بين
الوراثة في الحكم وشرعيتها وبين مثال أراد تقديمه للجمهور على شاكلة الزعيم المتفرد عن سابقيه
بعد هذا الفسير ينتقل إبن مرزوق باختصار إلى ذكر الدولة القائمة ويوضح أن المرينيين هم أقوى القبائل الزناتية عددا وعدة، مذكرا باشكالية نسبهم واختلاف الخاصة والعامة حوله مع ميل وترجيح انتسابهم إلى
العرب، كما تعرض لمراحل الدولة، معتمدا على ذكر صراعاتهم العسكرية ضد الموحدين، ومساندتهم للأندلسيين، وصراعهم مع أبناء عمومتهم الزناتيين، مع التركيز على سيرة وخصال ملوك بني مرين، ليصل بعد ذلك إلى
جوهر الكتاب وهو ترجمة أبي الحسن المريني
لقد عدد إبن مرزوق الخصال الشخصية للسلطان انطلاقا من المفاهيم الأخلاقية الدينية، وركز على توضيح كل ما يتعلق بشخصيته وصفاته، باعتبارها شرطا ضروريا للملك، ان الفهم والإدراك من سمات الخلافة ومعرفة
القصد الخفي للمتحدث كمال للمجال السياسي وادراكا للخبايا الباطنية، وهي مميزات يعطيها ابن مرزوق أهمية كبرى، بحيث أنها تكشف عن مدى قوة أبي الحسن وتجاوزه للتقليد في السلوك السلطاني، إذ أنه كان يلبس
لباسا أبيض وخاتما فضيا، ويرفض تقبيل يده ويترفع عن اللذات الرذيلة بعد أن استفتى علماء تلمسان، وكل هذه الخصال في منظور إبن مرزوق تتحكم فيها الأخلاق الدينية وليس الطابع السياسي، الا أن هذه الصفات
الذاتية تنتقل بالضرورة الى المجال السياسي، على اعتبار أنه لا يمكن الفصل بين المذهب المالكي وبين الدولة المرينية، ويظهر هذا من خلال تصرفات أبي الحسن وايمانه بالشريعة انطلاقا مما أقره علماء
المالكية بالمغرب، حتى أنه كان يعمل على تغليب آراء أهل السنة في مجالس المناظرة والدراسة ويعبر ابن مرزوق على ذلك بقوله:" فإذا عرضت أدلة المعتزلة والخارجين عن مذاهب أهل السنة يقول:" دعوا هذا" ويزجر
ذاكره". لقد ربط ابن مرزوق سيرة أبي الحسن المريني بالمذهب الرسمي للدولة، ليفسر من خلاله مختلف الأعمال الإقتصادية والسياسية والإجتماعية‘ انطلاقا من التأكيد على أهميتها الدينية وموافقتها للشرع
ومفهوم السلطة السياسية عند المالكية
لتحديد المثال السياسي الشرعي، أورد إبن مرزوق إيمان السلطان بحدود الشريعة وإقامة الحد وتطبيقه على المستوى العائلي، حيث أورد استشارته فقهاء مجلسه في قضية مرتبطة بابنه أبي مالك حين شرب الخمر، ومعنى
ذلك أن إقامة الحد من إختصاص أهل الحل والعقد، وتزكيتهم حتى في القضايا العائلية السلطانية كانت من السلوك السياسي السلطاني، ثم يتابع إبن مرزوق ليحدد مجال أكثر حضور في التاريخ المريني وهي قضية
الشرفاء وأهميتهم في المجال المغربي، من خلال هذه القضية وضح ابن مرزوق النظرة الجديدة الى آل البيت لدى السلطان، إذ أمر القاضي أبا عبد الله بن عبد الرزاق، قاضي مجلسه، وقاضي فاس أبي عبد الله بن عمران
بالنظر في أمور الشرفاء، فنودي في سائر البلاد المغربية على كل الشرفاء ليحضروا الى القاضيين لإثبات انتمائهم لآل البيت، وقد خصص لهم امتيازات هامة من اقطاعات ومرتبات شهرية، ومن بين هؤلاء الشرفاء
الجوطيين والأدارسة وشرفاء مراكش، وأولاد بركات والقضاة والحسينيين بسبتة وأولاد أبي الشرف والفقهاء العلويين، ولم يقتصر الأمر على شرفاء البلاد بل كذلك على الواردين من الحرمين وهم الحسينيين
والحسنيين
إن الاعتناء بطبقة الشرفاء يوضح اتساع مفهومه وتشكل تأثيره الإجتماعي حيث شمل مناطق متعددة من المغرب، ولذا الإعتناء لم يكن من منطلق ديني صرف نابعا من ايمان أبي الحسن حسب ما أورده ابن مرزوق، ولكن
الاعتناء بالشرفاء في هذه المرحلة يأتي استجابة لظرفية جادة على مستوى تقلب البنية الإجتماعية خصوصا وأن نمو نفوذ الشرفاء على هامش المخزن، يشكل قاعدة سياسية مضادة تنمو بدون رقيب ولها خطورتها على
الأمن والاستقرار، بالإضافة الى ما قد تشكله هذه الطبقة على مستوى تدعيم الشرعية السلطانية في مواجهة الزيانيين والمد الصوفي المتنامي، كل هذه الاعتبارات أخذها أبو الحسن المريني في قراره اتجاه
الشرفاء، ونلمس سياسة إعادة بناء الشرعية في قضية الإحتفال بالمولد النبوي الذي أخرجه السلطان من إطار العادات الدينية الإجتماعية إلى الإحتفالات الرسمية، وهذا الاحتفال الذي بدأ عزفيا في سبتة ثم
صوفيا إلى أن أدخل كدعم معنوي للدولة المرينية وكل ذلك كان الهدف منه إنهاء ملفات التبرير التي قد تدفع النخبة الإجتماعية بمختلف مكوناتها إلى العمل ضد الدولة المرينية. سياسة السلطان المريني تركزت في
عمقها على النخبة الإجتماعية من الشرفاء والفقهاء وذوي الإنتساب العائلي المتميز، اذا كانت استمالة لأصحاب القوة والنفوذ، لزعامتهم في مناطق مختلفة من أرجاء البلاد، وأن دفع الاقطاعات والرواتب الشهرية
ضمان لولاء هذه المناطق، وقد وضح ابن مرزوق قوة هذه النخبة في بعض التراجم، فمثلا يوضح مكانة أبو زيد عبد الرحمان بقوله:" شيخ الشيوخ وواحد وقته المنفرد بالسنن العالية والقيام بالرسالة خصوصا" و"
أبي عبد الله الكومي الضرير المراكشي..... من أصحاب التصوفات والمقامات" الذي وضع شروطا مسبقة للقاء أبي الحسن والمتمثلة في لقاء أول وأخير، وأن لا يعرض عليه المناصب، ويترك أولاده على مذهبه، وغيرها من
الروايات عن هذه النخبة كالشيخ عثمان بن أبي عفيف من مرابطي تكطين من أحواز مراكش، وخلال هذه الفترة كان فرع الأدارسة هو الأقوى، وخاصة منذ اشاعة فكرة ظهور جسد ادريس الأول سنة 1319 ميلادية
إن الإعتناء بالنخب المؤثرة في الساحة الإجتماعية سياسيا يفسرها إبن مرزوق انطلاقا من عوامل الايمان والعقيدة والشرع المتحكمة في نهج السلطان، الا أنه في نفس الوقت قدم لنا الاستراتيجية السياسية التي
انتهجها أبو الحسن المريني على مستوى إعادة بناء تكتل التأثير على المستوى الإجتماعي وهيكلته، ليكون دعامة للسلطة المركزية، إذن فالتحول من مذهب الدولة الواحد إلى سياسة استقطاب المد الشريفي والصوفي
كان محاولة لبناء تحالف يلتف حول المؤسسة السلطانية التي لم تبخل في بذل الجهد لإرضاء الجميع كل حسب مواقفه ومصالح فئته الإجتماعية، لقد كانت فترة أبي الحسن مرحلة بناء المؤسسة السلطانية وانفتاحها على
التطورات الفكرية والثقافية والتحولات الإجتماعية، لهذا السبب أدركت المؤسسة السلطانية أن احتواء النخبة واستمالتها لا تكفي إذا بقي الجمهور بعيدا عن الإستفادة من هذا التوجه السياسي المركزي، فأدخل أبو
الحسن سياسة الرعاية الإجتماعية السلطانية ضمن مفهوم السياسة السلطانية فكان يخرج مخزون الزرع في فترات الأزمة الغذائية وخاصة الاحتياج لمادة الحبوب التي تعتبر من المواد الأساسية والحيوية بالنسبة
للسكان، بالاضافة إلى سن سياسة رعاية الأيتام :" فسوغ لهم فيما علمت محرث زوجين ومجباها في كل وطن بحسب خراجه وجبايته وفيه كفاية...... ومن صدقاته.... أن في كل عاشوراء من سائر بلاده يجمع الأيتام الذين
يفتقرون إلى الختان، فيختن كل واحد ويكسوه قميصا واحراما ويعطي عشرة دراهم وما يكفي به من اللحم"، كما بنى مساكن للمواطنين القاطنين بساحة جامع العباد بعد أن اشتراها بحساب شبر دينار، ووضع الشيوخ في
قوائم عماله في مختلف الأقاليم لتقدم لهم رواتب على شكل اعانات، وبنى لهم دورا للاقامة
يقدم لنا إبن مرزوق حالة عن المؤسسة السلطانية التي تعمل على ترتيب البيت الداخلي إجتماعيا لإدراكها بالتطورات الحاصلة على مستوى البنيات الإجتماعية، وظهور ثقافة جديدة داخل النخبة والجمهور، فالمرحلة
إنتقالية من سياسة العصبية والدعوة الدينية إلى مرحلة الدولة الشريفية التي أخذت بعين الإعتبار قوة الشرفاء والمد الصوفي المتنامي في الأقاليم والجهات، فالسياسة السلطانية التي يقدمها الكتاب كانت
موجهة الى النخبة والجمهور لاحتواء الأزمة القائمة والقادمة والتي تمس بشرعية الدولة المرينية