29 Décembre 2008
"قال أبو محمد (= ابن حزم): إنا [...] تدبرنا أمر طائفتين ممن شاهدنا في زماننا هذا، ووجدناهما قد تفاقم الداء بهما:
فأما إحداهما فقد جاءت المصيبة فيها وبها، وهم قوم فتحوا عنفوان فهمهم وابتدأوا دخولهم إلى المعارف [...] بمطالعة شيء من كتب الأوائل [...]. فأشرفت هذه الطائفة من أكثر ما طالعت مما ذكرنا على علوم صحاح، براهينها ضرورية لائحة. ولم يكن معها من قوة المنة وجودة القريحة وصفاء النظر ما تعلم به أن من أصاب في عشرة آلاف مسألة مثلا، فجائز أن يخطيء في مسألة واحدة لعلها أسهل من المسائل التي أصاب فيها. فلم تفرق هذه الطائفة بين ما صح مما طالعوه بحجة برهانية، وبين ما في أثناء ذلك وتضاعيفه مما لم يأت عليه من ذكره من الأوائل إلا بإقناع أو بشغب وربما بتقليد. فحملوا كل ما أشرفوا عليه محملا واحدا، وقبلوه قبولا مستويا، فاستشرى فيهم العجب وتداخلهم الزهو، وظنوا أنهم قد حصلوا على مباينة العالم في ذلك [ فسخروا] من كل شيء من علوم الديانة. ولم تلق هذه الطائفة المذكورة من حملة الدين إلا أقواما لا عناية عندهم بشيء مما قدمناه، وإنما عنيت من الشريعة بأحد ثلاثة أوجه: إما بألفاظ ينقلون ظاهرها ولا يعرفون معانيها ولا يهتمون بفهمها. وإما بمسائل من الأحكام لا يشتغلون بدلائلها ومبعثها وإنما حسبهم منها ما أقاموا به جاههم وحالهم. وإما بخرافات منقولة من كل ضعيف وكذاب وساقط لم يهتموا قط بمعرفة صحيح منها من سقيم، ولا مرسل من مسند، ولا ما نقل عن النبي (ص) مما نقل عن كعب الأحبار أو وهب بن منبه [...]. فنظرت الطائفة الأولى من هذه الآخرة بعين الاستهجان والاحتقار والاستجهال[...].
وأما الطائفة الثانية فهم قوم ابتدأوا الطلب لحديث النبي (ص)، فلم يزيدوا على طلب علوم الإسناد وجمع الغرائب دون أن يهتموا بشيء مما كتبوا أو يعلموا به، وإنما تحملوه حملا لا يزيدون على قراءته دون تدبر معانيه [...] بل أكثر هذه الطائفة لا يعمل عندهم إلا ما جاء عن طريق [...] الكتب التي إنما هي خرافات موضوعات وأكذوبات مفتعلات [...]. فأطلقت هذه الطائفة كل اختلاف لا يصح: من أن الأرض على حوت، والحوت على قرن ثور، والثور على الصخرة، والصخرة على عاتق ملك، والملك على الظلمة، والظلمة على ما لا يعلمه إلا الله عز وجل [...].
فكان كلام هذه الطائفة مغريا للطائفة الأولى بكفرها ومغبطا لهم لشركهم، إذ لك يروا في خصومهم في الأغلب إلا من هذه صفته.
ثم زادت هذه الطائفة الثانية غلوا في الجنون [...] فعابوا كتبا لا علم لهم بها، ولا طالعوها، ولا رأوا منها كلمة، ولا قرؤوها، ولا أخبرهم عما فيها ثقة، كالكتب التي فيها هيئة الأفلاك ومجاري النجوم، والكتب التي جمع أرسطوطاليس في حدود الكلام (= المنطق).[...] وهذه الكتب كلها كتب سالمة مفيدة، دالة على توحيد الله، عز وجل، وقدرته، عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم
ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة خياط، بيروت، د.ت. ج.2 ص 93-95.