2 Février 2009
بني سليم من الطبقة الرابعة
الخبر عن بني سليم بن منصورمن هذه الطبقة الرابعة وتعديد
بطونهم وذكر أنسابهم و أولية أمرهم وتصاريف أحوالهم
ونبدأ أولا بذكر بني كعب وأخبارهم. وأمّا بني سليم هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر وأكثرهم جموعاً، وكانت منازلهم بنجد. وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وفيهم شعوب كثيرة. ورئاستهم في الجاهلية لبني الشريد بن رباح بن ثعلبة بن عطية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم، وعمرو بن الشريد عظيم مضر وأبناؤه صخر ومعاوية. فصخر أبو الخنساء وزوجها العبّاس بن مرداس صحابي حضرت معه القادسية.
(ومن بطون سليم) عطية ورعل وذكوان الذين دعا عليهم رسول الله لما فتكوا بأصحابه فَخَمَدَ ذكرهم. وكان بنو سليم لعهد الخلافة العباسية شوكة بغي وفتنة، حتى لقد أوصى بعض خلفائهم إبنه أن لا يتزوج فيهم. وكانوا يغيرون على المدينة وتخرج الكتائب من بغداد إليهم وتوقع بهم، وهم منتبذون بالقفر ولما كانت فتنة القرامطة صاروا حلفاء لأبي الطاهروبنيه، أمراء البحرين من القرامطة مع بني عقيل بن كعب.
ثم لما انقرض أمر القرامطة غلب بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة لما أن القرامطة كانوا على دعوتهم. ثم غلب بنو الأصفر بن تغلب على البحرين بدعوة العباسية أيام بني بويه، وطردوا عنها بني سليم فلحقوا بصعيد مصر. وأجازهم المستنصر على يد اليازوري وزيره إلى أفريقية لحرب المعز بن باديس عند خلافته عليهم كما ذكرنا ذلك أولأ، فأجازوا مع الهلاليين وأقاموا ببرقة وجهات طرابلس زمانا. ثم صاروا إلى أفريقية كما يذكر في الخبرعنهم.
وبأفريقية وما إليها من هذا العهد من بطونهم أربعة بطون: زغب وذياب وهبيب وعوف. فأما زغب فقال ابن الكلبي في نسبته: زغب بن نصر بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم. وقال أبومحمد التجاني من مشيخة التونسيين في رحامه أنه زغب بن ناصر بن خفاف بن جرير بن ملاك بن خفاف، وزعم أنه أبو ذياب وزغب الأصغر الذين هم الآن من أحياء بني سليم بأفريقية. وقال أبو الحسن بن سعيد: هو زغب بن مالك بن بهنة بن سليم، كانوا بين الحرمين، وهم الآن بأفريقية مع إخوانهم، ونسب ذياب بن مالك بن بهنة فالله أعلم بالصحيح من ذلك.
ونسب بن سعيد والتجاني لهؤلاء قريب بعضه من بعض ولعله واحد. وسقط لابن سعيد جدّ. وأما هبيب فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من أول أرض برقة مما يلي أفريقية إلى العقبة الصغيرة من جهة الإسكندرية، أقاموا هنالك بعد دخول إخوانهم إلى أفريقية. وأول ما يلي الغرب منهم بنو حميد لهم أجرابية وجهاتها. وهم عديد يرهبهم الحاج، ويرجعون إلى شماخ وقبائل شماخ لها عدد ولهم العز في هيت لكونها صارت خصب برقة الذي منه المرج. وفي شرقيهم إلى العقبة الكبيرة من قبائل هيب بنو لبيد، وهم بطون عديدة. وبين شماخ ولبيد فتن وحروب. وفي شرقيهم إلى العقبة الصغيرة شمال محارب والرياسة في هاتين القبيلتين لبني عزاز وهم المعروفون بالعزة. وجميع بطون هيب هذه استولت على إقليم طويل خربوا مدنه، ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخهم، وفي خدمتهم بربر ويهود يحترفون بالفلاحة والتجر. ومعهم من رواحة وفزارة أمم، واشتهو لهذا العهد ببرقة من شيوخ أعرابها أبو ذؤيب. ولا أدري نسبه فيمن هو، وهو بعيد، وهم يقولون من العزة، وقوم يقولون من بني أحمد، وقوم يجعلونه من فزارة لأن فزارة هنالك قليل عددهم والغلب لهيب فكيف تكون الرياسة لغيرهم؟. وأما عوف فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من وادي قابس إلى أرض بونة ولهم جرمان عظيمان: مرداس ولعلاق بطنان: بنو يحيى وحصن. وفي أشعار هؤلاء المتأخرين منهم مثل حمزة بن عمر شيخ الكعوب وغيره أن يحيى وعلاقا أخوان. ولبني يحيى ثلاثة بطون: حمير ودلاج ورياح ولحمير بطنان: ترجم وكردم. ومن ترجم: الكعوب بنو كعب بن أحمد بن ترجم. ولحصن بطنان: بنو علي وحكيم. ونحن نأتي على الحكاية عن جميعهم بطناً بطناً. وكانوا عند إجازتهم على أثر الهلاليين مقيمين ببرقة كما ذكرناه. وهنالك نزل عليهم القاضي أبو بكر بن العربي وأبوه حين غرقت سفينتهم ونجوا إلى الساحر، فوجدوا هنالك بني كعب فنزل عليهم فأكرمه شيخهم كما ذكر في رحلته.
ولما كانت فتنة ابن غانية وقراقش الغزي بجهات طرابلس وقابس وضواحيها كما نذكر في أخبارهم، كان بنو سليم هؤلاء فيمن تجع إليهم من ذؤبان العرب وأوشاب القبائل فاعصوصبوا عليهم. وكان لهم معهم حروب. وقتل قراقش ثمانين من الكعوب وهربوا إلى برقة واستصرخوا برياح من بطون سليم ودبكل من حمير فصارخوهم إلى أن تجلّت غمامة تلك الفتنة بمهلك قراقش وابن غانية من بعده. وكان رسوخ الدولة الحفصية بأفريقية. ولما هلك قراقش واتصلت فتنة ابن غانية مع أبي محمد بن أبي حفص ورجع بنو سليم إلى أبي محمد صاحب أفريقية. وكان مع ابن غانية الزواودة من رياح، وشيخهم مسعود البلط، فرّ من المغرب ولحق به فكان معه هو وبنوه. وبنوعوف هؤلاء من سليم مع الشيخ أبي محمد. فلما استبدّ إبنه الأمير أبو زكريا بملك أفريقية رجعوا جميعاً إليه، والشفوف للزواودة. فلما انقطع دابر ابن غانية صرف عزمه إلى إخراج رياح من إفريقية لما كانوا عليه من العيث بها والفساد، فجاء بمرداس وعلاق وهما بنوعوف بن سليم هؤلاء من مواطنهم بنواحي السواحل وقابس واصطنعهم.
ورياسة مرداس يومئذ في أولاد جامع، وبعده لإبنه يوسف، وبعده لعنان بن جابر بن جامع. ورياسة علاق في الكعوب لأولاد شيخة بن يعقوب بن كعب. وكانت رياسة علاق عند دخولهم أفريقية لعهدهذاالمعز وبنيه لرافع بن حماد، وعنده راية جدّه التي حضر بها مع النبي r ، وهو جدّ بني كعب فيما يزعمون. فاستظهر بهم السلطان على شأنه، وأنزلهم بساح القيروان، وأجزل لهم الصلات والعوائد وزاحموا الزواودة من رياح بمنكب، بعد أن كانت لهم استطالة على جميع بلاد أفريقية. وكانت أبّة إقطاعا لمحمد بن مسعود بن سلطان أيام الشيخ أبي محمد بن أبي حفص، فأقبل إليه مرداس في بعض السنين عيرهم للكيل ونزولوا به فرأوا نعمة الزواودة في تلولهم تلك، فشرهوا إليها وأجمعوا طلبها فحاربوهم فغلبوهم، وقتلوا رزق بن سلطان. واتصلت الفتنة. فلما حضرهم الأمير أبو زكريا صادف عندهم القبول لتحريضه فاعصوصبوا جميعاً على فتنة الزواودة وتأهبوا لها.
وتكررت بينهم وبين رياح الحروب والوقائع حتى أزاحوهم عن أفريقية إلى مواطنهم لهذا العهد بتلول قسطنطينة وبجاية إلى الزاب وما إليه. ثم وضعوا أوزار الحرب وأوطن كل حيث قسمت له قومه. وملك بنو عوف سائر ضواحي أفريقية وتغلبوا عليه واصطنعهم السلطان وأثبتهم في ديوان العطاء. ولم يقطع شيئا من البلاد. واختص بالولاية منهم أولاد جامع وقومه فكانوا له خالصة، وتم تدبيره في غلب الزواودة ورياح في ضواحي أفريقية وإزعاجهم عنها إلى ضواحي الزاب وبجاية وقسطنطينة، وطال بالدولة واختلف حالهم في الاستقامة معها والنفرة. وضرب السلطان بينهم ابن علاق فنشأت الفتنة وسخط عنان بن جابر شيخ مرداس من أولاد جامع مكانه من الدولة فذهب مغاضباً عنها. وأقام بناجعته من مرداس ومن إليهم بنواحي المغرب في بلاد رياح من زاغر إلى ما يقاربها، وخاطبه أبو عبد الله بن أبي الحسن خالصة السلطان أبي زكريا صاحب أفريقية يومئذ يؤنبه على فعلته في مراجعة السلطان بقصيدة منها قوله، وهي طويلة:
قدوا المهامه بالمهرية القود واطووا فلاة بتصويب وتصعيد
ومنها قوله:
سلوا دمنة بين الغضا والسواجر هل استن فيها واكفات المواطر
فأجاب عن هذه عنان بقوله:
خليلي عوجا بين سلع وحاجر بهوج عنا جيج نواج ضوامر
يقيم في النزوع عنهم ويستعطف السلطان بعض الشيء كما نذكره في أخبار الدولة الحفصية. ثم لحق بمراكش بالخليفة السعيد من بني عبد المؤمن محرضاً له على أفريقية وآل أبي حفص، وهلك في سبيله وقبر بسلا، ولم يزل حال مرداس بين النفرة والأصحاب إلى أن هلك الأمير أبو زكريا واستفحل ملك إبنه المستنصر من بعده، وعلا الكعوب بذمة قوية من السلطان. وكان شيخهم لعهده عبد الله بن شيخة فسعى عند السلطان في مرداس وكأن ابن جامع مبلغاً سعايته واعصوصبت عليه سائر علاق، فحاربوا المرداسيين هؤلاء وغلبوهم على الأوطان والحظ من السلطان، وأخرجوهم عن أفريقية وصاروا إلى القفر وهم اليوم به من جهة بادية الأعراب أهل الفلاة ينزعون إلى الرمل ويمتارون من أطراف التلول تحت أحكام سليم أو رياح، ويختصون بالتغلب على ضواحي قسطنطينة أيام مرابع الكعوب ومصائفهم بالتلول. فإذا انحدروا إلى مشاتيهم بالقفرأجفلت أحياء مرداس إلى القفر البعيد، ويخالطونهم على حلف ولهم على توزر ونفطة وبلاد قسطيلة أتاوة يؤدونها إليهم بما هي مواطنهم ومجالاتهم وتصرفهم، ولأنها في الكثير من أعراضهم.
وصاروا لهذا العهد إلى تملك القفار بها فاصطفوا منه كثيراً وأصبح منه عمران قسطنطينة لهم مرتابا واستقام أمر بني كعب من علاق وفي رياسة عوف وسائر بطونهم من مرداس وحصين ورياح، ودلاج ومن بطون رياح حبيب، وعلا شأنهم عند الدولة. واعتزوا على سائر بني سليم بن منصور، واستقرت رياستهم في ولد يعقوب بن كعب، وهم بنو شيخة وبنو طاهر وبنو علي. وكان التقدم لبني شيحة بن يعقوب لعبد الله أولاً، ثم لإبراهيم أخيه، ثم لعبد الرحمن ثالثهما على ما يأتي. وكان بنو علي يرادفونهم في الرياسة. وكان منهم بنو كثيربن يزيد بن علي.
وكان كعب هذا يعرف بينهم بالحاج لما كان قضى فرضه، وكانت له صحابة مع أبى سعيد العود الرطب شيخ الموحدين لعهد السلطان المستنصر أفادته جاهاً وثروة، وأقطع له السلطان أربعاً من القرى أصارها لولده. كان منها بناحية صفاقس وبأفريقية وبناحية الجريد. وكان له من الولد سبعة، أربعة لأم وهم أحمد وماضي وعلي ومحمد، وثلاثة لأم وهم: بريد وبركات وعبد الغني. فنازع أحمد أولاد شيخة في رئاستهم على الكعوب، واتصل بالسلطان أبي إسحق وأحفظهم ذلك فلحقوا بالدعي عند ظهوره، وكان من شأنه ماقدّمنا.
وهلك أحمد واستقرت الرياسة في ولده، وكان له من الولد جماعة. فمن غزية إحدى نساء بني يزيد من صنهاجة: قاسم ومرا أبو الليل وأبو الفضل، ومن الحكمية. قائد وعبيد ومنديل وعبد الكريم ومن السرية كليب وعساكر وعبد الملك وعبد العزيز. ولما هلك أحمد قام بأمرهم بعده إبنه أبو الفضل. ثم من بعده أخوه أبو الليل بن أحمد. وغلب رياسة بني أحمد هؤلاء على قومهم وتألفوا ولد إخوتهم جميعاً. وعرفوا ما بين أحيائهم بالأعشاش إلى هذا العهد. ولما كان شأن الدعي بن أبي عمارة. ويئس بأنه الفضل بن يحيى المخلوع، وأوقع بالسلطان أبي إسحق وقتله وأكثر بنيه كما نذكره في موضعه. لحق أبو حفص أخوه الأصغر بقلعة سنان من حصون أفريقية. وكان لأبي الليل بن أحمد في نجاته ثم في القيام بأمره أثره وقع منه أحسن المواقع فاصطنعه به وشيد من رياسته على قومه عندما أدال الله به من الدعي فاصطلع أبو الليل هذا بأمرهم.
وزاحم أو لاد شيحة بمنكب قوي. ولحق آخرهم عبد الرحمن بن شيحة بجباية عندما اقتطعها الأميرأبو زكريا ابن السلطان أبي إسحق على ملك عمه السلطان أبي حفص، فوفد عليه مستجيشاً به ومرغبا له في ملك تونس، يرجوبذلك كثرة رئاسته فهلك دون مرامه، وقبر ببجاية وانقرضت رياسة أولاد شيخة بمهلكه. واستبد أبو الليل بالرياسة في الكعوب، ووقع بينه وبين السلطان أبي حفص وحشة، فقدم على الكعوب مكانه محمد بن عبد الرحمن بن شيخة، وزاحمه به أياماً حتى استقام على الطاعة.
ولما هلك قام بأمرهم إبنه أحمد، واتصل أمر رياسته ونكبه السلطان أبوعصيدة فهلك في سجنه، وولي بعده أخوه عمر بن أبي الليل، وزاحمه هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب إلى أن هلك هراج كما نذكره. ولما هلك عمر قام بأمره في قومه أخوه محمد بن أبي الليل وكفل مولاهم وحمزة ابن أخيه عمر. وكان عمرمضعفا عاجزاً فنازعه أولاد مهلهل ابن عمه قاسم وهم: محمد ومسكيانه ومرغم وطالب وعون في آخرين لم يحضرني أسماؤهم، فترشحوا للاستبداد على قومهم ومجاذبة محمد ابن عمهم أبي الليل حبل الرياسة فيهم. ولم يزالوا على ذلك سائرأيامهم.
ولما ظهر هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب وعظم ضغائنه وعتوه وإفساد الأعراب من احيائه السابلة وساء أثره في ذلك، وأسف السلطان بالاعتزاز عليه والاشتراط في ماله.
وتوغلت له صدور الغوغاء والعامة، فوفد على تونس عام خمسة وسبعمائة ودخل المسجد يوم الجمعة لابساً خفيه. ونكر الناس عليه وطأه بين الله بخف لم ينزعه. وربما قال له في ذلك بعض المصلين إلى جنبه، فقال: إني أدخل بها بساط السلطان فكيف الجامع؟ فاستعظم الناس كلمته، وثاروا به لحينه فقتلوه في المسجد وأرضوا الدولة بفعلهم. وكان أمره مذكوراً.
وقتل السلطان بعد ذلك أخاه كيسان وابن عمه شبل بن منديل بن أحمد. وقام بأمر الكعوب من بعد محمد بن أبي الليل وهراج بن عبيد مولاهم وحمزة أبناء عمر واستبد برياسة البدو من سليم بأفريقية على مزاحمة من بني عمهم مهلهل بن قاسم وأقتالهم وفحول سوالهم. وانتقض أحمد بن أبي الليل وابن أخيه مولاهم ابن عمر على السلطان سنة سبع وسبعمائة واستدعى عثمان بن أبي دبوس من مكانه بوطن دباب فجاءهما وأجلب له على تونس. ونزل كدية الصعتر بظاهرها. وبرز إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن فهزمهم، واستخدم أحمد بن أبي الليل.
ثم تقبض عليه واعتقل بتونس إلى أن هلك. ووفد بعد ذلك مولاهم ابن عمر سنة ثمان وسبعمائة فاعتقل معه، ولحق أخوه حمزة بالأميرأبي البقاء خالد ابن الأمير زكريا صاحب الثغر الغربي من أفريقية بين يدي مهلك السلطان أبي عصيدة، ومعه أبو علي بن كثير، ويعقوب بن الفرس وشيوخ بني سليم هؤلاء. ورغبوا الأميرأبا البقاء في ملك الحضرة. وجاءوا في صحبته، وأطلق أخاه مولاهم من الاعتقال منذ دخول السلطان تونس سنة عشر وسبعمائة كما نذكره في خبره.
ثم لحق حمزة بالسلطان أبي يحيى زكريا بن اللحياني، واتصلت به يده فرفعه على سائر العرب حتى لقد نفس ذلك عليه أخوه مولاهم. ونزع إلى السلطان أبي يحيى الطويل أمر الخلافة. ولي سبعاً ببجاية وثلاثين بعد استيلائه على الحضرة وسائر بلاد أفريقية، فاستخلصه السلطان لدولته ونابذه حمزة فأجلب عليه بالقرابة واحداً بعد واحد كما نذكره. وداهن أخوه مولاهم في مناصحة السلطان ومالأ حمزة على شأنه.
وربما نمي عنه الغدر فتقبض عليه السلطان وعلى إبنه منصور وعلى ربيبه زغدان ومغران بن محمد بن أبي الليل. وكان الساعي بهم إلى السلطان ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد، وأحمد بن عبد الواحد أبوعبيد وأبو هلال بن محمود بن فائد وناجي بن أبي علي بن كثيرومحمد بن مسكين وأبوزيد بن عمربن يعقوب، ومن هوّارة فيصل بن زعزاع فقتلوا لحينهم سنة إثنتين وعشرين وسبعمائة وبعثت أشلاؤهم إلى حمزة فاشتد حنقه ولحق صريخاً بأبي تاشفين صاحب تلمسان لعهده من آل يغمراسن، ومعه محمد ابن السلطان اللحياني المعروف بأبي ضربة قد نصبه للملك.
وأمدهم أبو تاشفين بعساكر زناتة، وزحفوا إلى أفريقية فخرج إليهم السلطان وهزمهم برغيش. ولم يزل حمزة من بعدها جلباً على السلطان أبي يحيى بالمرشحين من أعياص البيت الحفصي، وأبو تاشفين صاحب تلمسان يمدهم بعساكره. وتكررت بينهم الوقائع والأيام سجالا كما نذكره في مواضعه.
حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن وقومه من بني مرين على تلمسان والغرب الأوسط سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، واستتبعوا بني عبد الواد وسائر زناتة اقصي حمزة عن فتنته وانقطع حبلها في يده، ولحق بالسلطان أبي الحسن مستشفعاً به، فتقبل السلطان أبو يحيى شفاعته وعفا له عن جرائمه وأ حله محل الأصفاء والخلوص. فشمرعن نصحه واجتهاده وظاهر قائده محمد بن الحكيم على تدويخ أفريقية، وظهر البدو من الأعراب فاستقام أمر الدولة وتوثر مهادها. وهلك حمزة سنة أربعين وسبعمائة بيد أبي عون نصر بن أبي علي عبد السلام، من ولد كثمربن زيد المتقدم الذكرفي بني علي من بطون بني كعب، طعنه في بعض الحروب فأشواه، وكان فيها مهلكه.
وقام بأمرهم من بعده إبنه عمر بمظاهرة شقيقه قتيبة. ولكن أبا الليل تغلب على سائر الإخوة والقرابة، واستبد برياسة بني كعب وسائر بني يحيى، وأقتاله بنو مهلهل ينافسونه ويرتقبون الإدالة منه. وكان مساهمه في أمره معن بن مطاعن فزارة وزير أبيه. وخرجوا على السلطان بعد مهلك حمزة أبيهم واتهموا أن قتل أبي عون إياهم إنما كان بممالأة الدولة فنازلوا تونس، وجمعوا لمحاصرتها أولاد مهلهل أمثالهم. ثم اختلفوا ورحلوا عن البلد وانخذل طالب بن مهلهل وقومه إلى السلطان. ونهض في أثرهم فأوقع بهم في القيروان ووفدت مشيختهم على إبنه الأميرأبي العبّاس بقصره يداخلونه في الخروج على إبنه. وكان فيهم معن بن مطاعن وزيرهم فتقبض عليه وقتله وأفلت الباقون. وراجعوا الطاعة وأعطوا الرهن.
(ولما هلك) السلطان أبو يحيى وقام بالأمر إبنه عمر انحرفوا عنه، وطاهروا أخاه أبا العبّاس صاحب الجريد وولي العهد، وزحفوا معه بظواعنهم إلى تونس فدخلها، وقتله أخوه عمركما نذكره في موضعه، وقتل معه أخاهم أبو الهول بن حمزة فأسعفهم بذلك.
ووفد خالد على صاحب المغرب السلطان أبي الحسن فيمن وفد عليه من وجوه الدولة وكافة المشيخة من أفريقية، وجاء في جملته حتى إذا استولى على البلاد قبض أيديهم عما كانت تمتد إليه من إفساد السابلة وأخذ الأتاوة، وانتزع الأمصار التي كانت متقطعة بأيديهم، وألحقهم بأمثالهم من أعراب بلاد المغرب الأقصى من المعقل وزغبة فثقلت وطأته عليهم وتنكروا له، وساء ظنه بهم وفشت غارات المفسدين من بداويهم بالأطراف فنسب ذلك إليهم، ووفد عليه بتونس من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله بن مسكين وخليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم، فسعى بهم عنده أنهم داخلوا بعض الأعياص من أولاد اللحياني من بني أبي حفص كما في رحلته، وكما نذكره في موضعه فتقبض عليهم وبلغ خبرهم إلى الحي فتأشبوا بقسطيلة والجريد فظفروا بزنابي من بقية آل عبد المؤمن من عقب أبي العبّاس إدريس الملقب بأبي إدريس آخر خلفائهم بمراكش وقتيل يعقوب بن عبد الحق عند غلبه على الموحدين بمراكش واستيلاؤه على المغرب، وهو أحمد بن عثمان بن إدريس فنصبوه وبايعوه واجتمعوا عليه.
ونأشبت معهم بنو عمهم مهلهل أقتالهم وكان طالب هلك، وقام مكانه فيهم ابنه محمد فصرخهم بقومه واتفقوا جميعاً على حرب زناتة. ونهض إليهم السلطان أبو الحسن من تونس فاتح تسع وأربعين وسبعمائة فأجفلوا أمامه حتى نزل القيروان. ثم ناجزوه ففضوا جموعه وملأوا حقائبهم بأسلابه وأسلابهم، وخضدوا من شوكة السلطان وألانوا من حد الملك، وخفضوا من أمر زناتة. وغلبهم الأمم وكان يوم له ما بعده في اعتزاز العرب على الدول آخر الأيام. وهلك أبو الليل بن حمزة فعجز عمر عن مقاومة إخوته، واستبد بالرياسة عليه أخوه خالد، ثم من بعده أخوهما منصور.
واعتز على السلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى صاحب تونس لعهد ه اعتزازاً لا كفاء له.
وانبسطت أيدي العرب على الضاحية وأقطعتهم الدولة حتى الأمصار وألقاب الجباية ومختص الملك، وانتفضت الأرض من أطرافها ووسطها، وما زالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية، وقاسموهم في جبايات الأمصار بالأقطاع ريفاً وصحراء وتلولاً وجريدأ. ويحرضون بين أعياص الدولة ويجلبون بهم على الحضرة لما يعطونه طعمة من الدولة. ويريمهم السلطان بأقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد يديل به منهم حتى أحفظوها. ويجرش بينهم بقضاء أوطارها حتى إذا أراد الله إنقاذ الأمة من هوة الخسف وتخليصهم من مكاره الجوع والخوف، وإدالتهم من ظلمات الموت بنور الاستقامة بعث همة السلطان أمير المؤمنين أبي العبّاس أحمد أيده الله لطلب إرثه من الخلافة. فبعث من بالحضرة فانبعث لها من مكان إمارته بالثغر العربي، ونزل إليه أمير البدو ومنصور بن حمزة هذا، وذلك سنة إحدى وسبعين وسبعمائة على حين مهلك السلطان أبي إسحق مقتعد كرسي الحضرة وصاحب عصا الخلافة والجماعة.
وقام إبنه خالد بالأمر من بعده فنهض إلى أفريقية ودخل تونس عنوة، واستولى على الحضرة سنة إثنتين وسبعمائة بعدها، وأرهف حدّه للعرب في الاعتزاز عليهم وقبض أيديهم عن المفاسد وذويهم فحدثت لمنصور نفرة عن الدولة، ونصب الأمير أبو يحيى زكريا ابن السلطان ابن أبي يحيى جدهم الأكبر، كان في أحياء العرب منذ سنين كما نذكرذلك كله في أخبار الدولة، وأجلب به على تونس سنة ثلاث وسبعين فامتنعت عليهم ولم يظفروا بشيء، وراجع منصور حاله عند السلطان، وكشف عن وجه المناصحة. وكان عثسريته ملوا منه حسداً ومنافسة بسوء ملكته عليهم، فغدا عليه محمد ا بن أخيه أبى الليل وطعنه فأشواه، وهلك ليومه سنة خمس وسبعين، وافترق جمعهم.
وقام بأمرهم من بعده صولة ابن أخيه خالد بن حمزة، ويرادفه أولاد مولاهم ابن عمرفجهد بعض الشيء في خدمة السلطان ومناصحته. ثم رجع إلى العصيان وكشف القناع في الخلاف. واتصل حاله على ذلك ثلاثأ، وأدال السلطان منه ومن قومه بأقتالهم أولاد مهلهل، ورياستهم لمحمد بن طالب، فرجع إليهم رياسة البدو وجعل لهم المنع والإعطاء فيهم ورفع رتبهم على العرب. وتحيز إليهم مع أولاد مولاهم بن عمر بن أبي الليل، ونقلت أولاد حمزة سائر هذه الأيام في الخلافة ونهض السلطان سنة ثمانين وسبعمائة إلى بلاد الجريد لتقديم رؤسائها عن المراوغة، وحملهم على جادة الطاعة فتعرضوا لمدافعته عنها بإملاء هؤلاء الرؤساء ومشارطتهم لهم على ذلك.
وبعد أن جمعوا له الجموع من دومان العرب الأعراب وذياب البدو فغلبهم عليها جميعاً وأزاحهم عن ضواحيها، وظفر بفرائسه من أولئك الرؤساء، وأصبحوا بين معقتل ومشرد. واستولى على قصورهم وذخائرهم، وأبعد أولاد حمزة وأحلافهم من حكيم المفر، وجاوزوا تخوم بلادهم من جهة المغرب، واعتزت عليهم الدولة اعتزازاً لا كفاء له، فنامت الرعايا في ظل الأمن وانطلقت منهم أيدي الاعتمار والمعاش وصلحت السابلة بعد الفساد، وانفتحت أبواب الرحمة على العباد.
وقد كان اعتزاز هؤلاء العرب على السلطان والدولة لا ينتهي إليه اعتزاز ولهم عنجهية وإباية وخلق في التكبر والزهو غريزة لما أنهم لم يعرفوا عهدأ للذل، ولا يساومون بإعطاء الصدقات لهذا العهد الأول. أما في دولة بني أُميّة فللعصبية التي كانت للعرب بعضها مع بعض، يشهد بذلك أخبار الردة والخلفاء معهم ومع أمثالهم. مع أن الصدقة كانت لذلك العهد تتحرى الحق بجانب الاعتزاز والغلظة فليس في إعطائها كثير غمط ولا مذلة. وأما أيام بني العبّاس حين استفحال الملك وحدوث الغلظة على أهل العصابة فلإبعادهم بالقفر من بلاد نجد وتهامة وما وراءهما.
وأما أيام العبيديين فكانت الحاجة تدعو الدولة إلى استمالتهم للفتنة التي كانت بينهم وبين بني العبّاس. وأما حين خرجوا بعد ذلك إلى قضاء برقة وأفريقية فكانوا ضاخين من ظل الملك. ولما اصطنعهم بنو أبي حفص كانوا معهم بمكان من الذل وسوم الخسف حتى كانت واقعتهم بالسلطان أبي الحسن وقومه من زناتة بالقيروان فنهجوا سبيل الاعتزاز كغيرهم من العرب على الدول بالمغرب، فتحامل المعقل وزغبة على ملوك زناتة، واستطالوا في طلابهم بعد أن كانوا مكبوحين بحكمة التغلب على التطاول إلى مثلها، والله مالك الأمور.