25 Mai 2009
فلما كانت الجمعة الثانية وهي سابعه خطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد ابن المستظهر بالله.
وقطعت الخطبة للعاضد لدين الله فانقطعت ولم تعد بعدها إلى اليوم الخطبة للفاطميين.
وذلك أنه لما ثبتت قدم صلاح الدين بالديار المصرية وأزال المخالفين له وضعف أمر الخليفة العاضد بقتل رجاله وذهاب أمواله وصار الحكم على قصره قراقوش طواشي أسد الدين نيابة عن صلاح الدين وتمكنت عساكر نور الدين من مصر طمع في أخذها.
وكتب إلى صلاح الدين وفي ظنه وظن جميع عساكره أن صلاح الدين إنما هو نائب عنه في مصر متى أراد سحبه بإذنه لا يمتنع عليه يأمره بقطع خطبة العاضد وإقامتها للمستضيء العباسي.
فاعتذر بالخوف من قيام المصريين عليه وعلى من معه لميلهم كان إلى الفاطميين ولأنه خاف من قطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء أن يسير نور الدين إلى مصر وينزعه منها.
فلم يقبل منه نور الدين وألح عليه وألزمه إلزاماً لم يجد مندوحة عن مخالفته وساعدته الأقدار بمرض العاضد المرض الذي غلب على الظن أنه لا يعيش منه.
فجمع صلاح الدين أصحابه إليه واستشارهم في ذلك فاختلفوا فمنهم من أشار بقطع خطبة العاضد ومنهم لم يشر بها.
وكان قد دخل إلى مصر رجل عجمي يعرف بالأمير العالم يزعم أنه عباسي فاطمي من أيام الصالح بن رزيك وما زال ينتقل في قوالب الانتساب وأساليب الاكتساب.
فلما رأى ما هم فيه من الإحجام وأن أحداً لا يتجاسر ويخطب للمستضيء قبل الخطيب فلم ينكر أحد عليه ولا تحرك له.
فتيقن حينئذ صلاح الدين ذهاب قوة القوم من وال يغريهم.
فتقدم إلى جميع الخطباء بأن يخطبوا في الجمعة الآتية للمستضيء وكتب بذلك إلى سائر أعمال مصر.
فكان الذي ابتدأ بالخطبة للمستضيء في الجامع العتيق بمصر أبو عبد الله محمد ابن الحسن بن الحسين بن أبي المضاء الدمشقي.
وكان قدم به أبوه إلى مصر فنشأ بها وقرأ الأدب ورحل إلى دمشق وبغداد وتفقه وعاد إلى مصر واتصل بخدمة السلطان صلاح الدين فولاه الخطابة بمصر ثم بعثه رسولا إلى بغداد فمات بدمشق.
وولي الخطابة بعده الشيخ أبو إسحاق العراقي.
فكتم أهل العاضد ذلك عنه لشدة ما به من المرض.
وكان ذلك من أعجب ما يؤرخ فإن الخطبة بديار مصر أول ما خطب بها للمعز لدين الله أول خلائف الفاطميين بمصر عمر بن عبد السميع العباسي الخطيب بجامع عمرو كما تقدم ذكره وكان الذي قطع خطبة العاضد آخر خلائفهم رجل عباسي.
ومثله في الغرابة أن الفاطميين لم يتمكنوا من الديار المصرية حتى قصدوها بعساكرهم مرتين مع القائم بن المهدي ولم يفتح وفتحوها في الثالثة على يد جوهر وكذا حصل في زوالهم من مصر فإن شيركوه قصد مصر مرتين ورجع ثم قصدها في المرة الثالثة واستقر بها حتى أزالت عساكره الدولة.
في ثامنه أمر صلاح الدين بركوب عساكره كلها قديمها وجديدها بعد أن تكامل سلاحهم وخيولهم وخرج لعرضهم وهي تمر عليه موكباً بعد موكب وطلباً بعد طلب.
والطلب بلغة الغز هو الأمير المقدم الذي له علم معقود وبوق مضروب وعدة من الجند ما بين مائتي فارس إلى مائة فارس إلى سبعين فارسا واستمر طول النهار في عرضهم.
وكانت العدة الحاضرة مائة وسبعة وأربعين طلباً والغائب منها عشرون طباً وتقدير العدة أربعة عشر ألف فارس.
في يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من المحرم عشية يوم عاشوراء نفذ حكم الله المقدور وقضاؤه الذي يستوي فيه الآمر والمأمور في العاضد لدين الله في الثلث الأول من ليلة الاثنين يوم عاشوراء وقامت عليه الواعبة وعظمت ضوضاء الأصوات النادبة حتى كأن القيامة قد قامت.
وكان بين وضع اسمه من أعواد المنابر ورفع جسمه على أعواد النعش ثلاثة أيام.
فاعتني به صلاح الدين عن أن يبتذل أو يهان بعد الموت وكان من معه من الأمراء يريدون ذلك وأمر بكف الأيدي واعتقال الألسنة عن التعرض إليه بسوء وركب معزياً لأهل القصر.
وأمر بتجهيزه وقد أظهر الكآبة والحزن وأجرى دمعه ووعد أهله بحسن الخلافة على أيتام العاضد وهم ثلاثة عشر ولداً: أبو الحسن وأبو سليمان داود وأبو الحجاج يوسف وأبو الفتوح وأبو إسحاق إبراهيم وأبو الفضل جعفر وأبو داود موسى وأبو زكريا يحيى وعبد القوي وعبد الكريم وعبد الصمد وأبو اليسر وأبو القاسم عيسى.
وأمر بإنشاء الكتب إلى البلاد بذكر وفاة العاضد وأن الخطبة استقرت للمستضيء بأمر الله أمير المؤمنين العباسي وألا يخوض أحد في شأن العاضد ولا يطعن في سلطان.
وكتب إلى نور الدين بموت العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء كما أشار به مع ابن أبي عصرون.
وفي حادي عشره عمل الباقي بالإيوان وحضر السلطان صلاح الدين وكان محفلا حافلا وجمعاً حاشداً فيه خلق من الزوايا وأهل التصوف وغيرهم.
واهتم بما يحمل من أطعمة العزاء.
وكانت النفوس متطلعةً إلى إقامة خليفة بعد العاضد من أهله يشار إليه بالأمر فلم يرض ذلك صلاح الدين.
ومات العاضد وعمره إحدى وعشرون سنة غير عشرة أيام منها في الخلافة إلى أن أعيدت دولة بني العباس في مستهل المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة عشر يوماً.
وكان كريماً سمحاً لطيفاً لين الجانب يغلب عليه الخير وينقاد إليه.
وكان أسمر حلو السمرة كبير العينين أزج الحاجبين في أنفه حلس وفي منخريه انتشار وفي شفتيه غلظ.
وترك العاضد من الولد الأمير داود والأمير عليا ويقال أبو علي والأمير عبد الكريم وتميماً وموسى وعبد القوي وجعفر وعبد اصمد وأبا الفتوح وحيدرة وإبراهيم ويحيى وجبريل وعيسى وسليمان ويوسف غير أن أيامه كانت ذات مخاوف وتهديدات وقاسى شاوراً وتلوناته ومخايلاته ثم محاصرة الفرنج ومضايقته.
وفي أيامه احترقت مصر وذهبت أموال أهلها وزالت نعمتهم بالحريق والنهب.
وكان متغالياً في مذهبه شديدا على من خالفه.
ولم يكن فيمن ولي من أبائه من أبوه غير خليفة سواه ومن قبله الحافظ وما عداهما فلم يل منهم أحد الخلافة إلا من كان أبوه خليفة.
وقال ابن خلكان: سمعت جماعة من المصريين يقولون إن هؤلاء القوم في أوائل دولتهم قالوا لبعض العلماء اكتب لنا ورقة تذكر فيها ألقاباً تصلح للخلفاء حتى إذا تولى واحد لقبوه ببعض تلك الألقاب فكتب لهم ألقاباً كثيرةً وآخر ما كتب في الورقة العاضد فاتفق أن آخر من ولي منهم تلقب بالعاضد وهذا من عجيب الاتفاق.
قال: وأخبرني أحد علماء المصريين أيضا أن العاضد رأى في آخر دولته في منامه كأنه بمدينة مصر وقد خرجت إليه عقرب من مسجد معروف بها فلدغته فلما استيقظ ارتاع لذلك وطلب بعض معبري الرؤيا وقص عليه المنام فقال ينالك مكروه من شخص هو مقيم في هذا المسجد فطلب والي مصر وأمره يكشف عمن هو مقيم في المسجد المذكور وكان العاضد يعرفه.
فمضى الوالي إلى المسجد فرأى فيه رجلا صوفياً فأخذه ودخل به على العاضد فلما رآه سأله من أين هو ومتى قدم البلاد وفي أي شيء قدم وهو يجاوبه عن كل سؤال.
فلما ظهر له منه ضعف الحال والصدق والعجز عن إيصال المكروه إليه أعطاه شيئاً وقال له: يا شيخ ادع لنا وأطلق سبيله فنهض من عنده وعاد إلى المسجد.
فلما استولى صلاح الدين وعزم على القبض على العاضد واستفتى الفقهاء أفتوه بجواز ذلك لما كان عليه العاضد وأشياعه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد وكثرة الوقوع في الصحابة وكان أكثرهم مبالغة في الفتيا الصوفي المقيم في المسجد وهو نجم الدين الخبوشاني فإنه عدد مساوئ القوم وسلب عنهم الإيمان وأطال الكلام في ذلك فصحت بذلك رؤيا العاضد.
وحكى الشريف الجليس أن العاضد طلبه يوماً فلما دخل عليه رأى عنده مملوكين من الترك عليهما أقبية فسأله عنهما فقال له: هذه هيئة الذين يملكون ديارنا ويأخذون أموالنا فلما دخل الغز كانت هيئتهم كهيئة هذين المملوكين.
ومن العجيب أنه لم يمت بالقصر منهم إلا المعز أولهم بمصر والعاضد آخرهم وعدتهم أربعة عشر دفنوا كلهم بالتربة في المجلس فلو اتفق أنه مات آخر لم يوجد له عندهم مكان يدفن فيه لامتلائه بقور الأربعة عشر وهذا أيضاً من عجيب أمرهم.
ولما مات العاضد استولى صلاح الدين على جميع ما كان في القصر فإن قراقوش قام بحفظه فلم يجد فيه كثير مال لكنه وجد فيه من الفرش والسلاح والذخائر والتحف ما يخرج عن الإحصاء ووجد فيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا من مثله ومن الجواهر ما لا يوجد عند غيرهم مثله.
منها حبل ياقوت زنته سبعة عشر درهماً أو سبعة عشر مثقالا ونصاب زمرد طوله أربعة أصابع في عرض كبير ولؤلؤ كثير وإبريق من حجر مانع يسع مائه رطل ماء وسبعمائة يتيمة بزهر والطبل الذي صنع لإزالة القولنج وكان بالقرب من موضع العاضد فلما احتاطوا بالقصر ظنوه عمل للعب فسخروا من العاضد وضرب عليه إنسان فضرط فتضاحك من حضر منهم ثم ضرب عليه آخر فضرط ثم آخر من بعد فضرط حتى ووجد من الكتب النفيسة ما لا يعد ويقال إنها كانت ألف ألف وستمائة ألف كتاب منها مائة ألف مجلد بخط منسوب وألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري فباع السلطان جميع ذلك وقام البيع فيها عشر سنين.
ونقل أهل العاضد وأقاربه إلى مكان بالقصر ووكل بهم من يحفظهم.
وأخرج سائر ما في القصر من العبيد والإماء فباع بعضهم وأعتق بعضهم ووهب منهم.
وخلا القصر من ساكنه كأن لم يغن بالأمس.
وكانت مدة الدولة الفاطمية بالمغرب ومصر منذ دعي للمهدي عبيد الله برقادة من القيروان إلى حين قطعت من ديار مصر مائتي سنة وتسعاً وستين سنة وسبعة أشهر وأياماً أولها لإحدى عشرة بقيت من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين وآخرها سلخ ذي الحجة سنة ست وستين وخمسمائة منها بالمغرب إلى حين قدوم القائد جوهر إلى مصر أحد وستون سنة وشهران وأيام ومنها بالقاهرة ومصر مائتا سنة وثماني سنين.
وما أعجب قول المهدي ابن الزبير في مدح العاضد:
بل عاد للدّنيا الجمال وبدا على الدّين الجلال
أصبحت في الخلفاء را بـع عشرهم وهو الكمال
قال ابن سعيد: ولم يسمع فيما بكيت به دولة بعد انقراضها أحسن من قصيدة عمارة ابن علي اليمني الذي قتله صلاح الدين وهي: رميت يا دهر كفّ المجد بالشّلل وجيده بعد حسن الحلي بالعطل سعيت في منهج الرأي العثور فإن قدرت من عثرات الدّهر فاستقل جدعت مارنك الأقني فأنفك لا ينفكّ ما بين قرع السّنّ والحجل هدمت قاعدة المعروف عن عجل سقيت مهلا أما تمشي على مهل! لهفي ولهف بني الآمال قاطبةً على فجيعتنا في أكرم الدّول قدمت مصر فأولتني خلائفها من المكارم ما أربى على الأمل قومٌ عرفت بهم كسب الألوف ومن كمالها أنّها جاءت ولم أسل وكنت من وزراء الدّست حين سما رأس الحصان بهاديه على الكفل ونلت من عظماء الجيش مكرمةً وخلّةً حرست من عارض الخلل يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة لك الملامة إن قصّرت في عذلي بالله زر ساحة القصرين وابك معي عليهما لا على صفّين والجمل هل كان في الأمر شيءٌ غير قسمة ما ملكتم بين حكم السّبي والنّفل وقد حصلتم عليها واسم جدّكم محمّد وأبوكم غير منتقل مررت بالقصر والأركان خالية من الوفود وكانت قبلة القبل فملت عنها بوجهي خوف منتقد من الأعادي ووجه الودّ لم يمل أسبلت من أسفٍ دمعي غداة خلت رحابكم وغدت مهجورة السّبل أبكى على مأثراتٍ من مكارمكم حال الزّمان عليها وهي لم تحل دار الضّيافة كانت أُنس وافدكم واليوم أوحش من رسمٍ ومن طلل وفطرة الصّوم إن أضحت مكارمكم تشكو من الدّهر ضيماً غير محتمل وكسوة الناس في الفصلين قد درست ورثّ منها جديدٌ عندهم وبلي وموسم كان في يوم الخليج لكم يأتي تجملكم فيه على الجمل وأوّل العام والعيدين كم لكم فيهنّ من وبل جودٍ ليس بالوشل والأرض تهتزّ في يوم الغدير كما يهتزّ ما بين قصريكم من الأسل كانت رواتبكم للذّمّتين وللضّم - - يف المقيم وللطّاري من الرّسل ثم الطّراز بتنّيس الذي عظمت منه الصّلات لأهل الأرض والدّول وللجوامع من أحباسكم نعمٌ لمن تصدّر في علمٍ وفي عمل وربمّا عادت الدّنيا لمعقلها منكم فأضحت بكم محلولة العقل والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم ولا نجا من عذاب الله غير ولي ولا سقى الماء من حرٍّ ومن ظمإ من كفّ خير البرايا خاتم الرّسل ولا رأى جنة الله التي خلقت من خان عهد الإمام العاضد بن علي أئمتي وهداتي والذّخيرة لي إذا ارتهنت بما قدّمت من عملي تالله لم أُوفهم في المدح حقّهم لأنّ فضلهم كالوابل الهطل ولو تضاعفت الأقوال واستبقت ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل باب النّجاة هم دنيا وآخرةً وحبّهم فهو أصل الدّين والعمل نور الهدى ومصابيح الدّجا ومحلّم الغيث إن ونت الأنواء في المحل ووجد على بعض جدران القصر مكتوباً: يا هذه الدنيا عجبت لمولع بك كيف أضحى في هواك يقاد ما صحّ منك لآل أحمد موعد فكيف منك لغيرهم ميعاد أمّا نعيمك فهو ظلٌّ زائل وصلاح ما تأتيه فهو فساد.
أحمد بن علي المقريزي، اتعاظ الحفنا