30 Mars 2007
في مقالين سابقين تناولنا الخلفية وقوى التغيير الوسيطية -النموذج الصنهاجي والنموذج المصمودي- ، المرحلة الثانية تتعلق بالنظرية الإصلاحية والممارسة من خلال المشروع السياسي الديني للداعيين، محاولة منهما الإجابة بطرق مقنعة عن تطلعات وهواجس ومصالح نخبة القبائل ومجتمع الإستقبال القبلي على المستوى السياسي والإقتصادي والإجتماعي. ومنذ البداية لا بد من التمييز بين مرحلتين في الإستراتيجية السياسية حسب نصوصنا:المرحلة الأولى هي مرحلة لقاء الداعي بمجتمع الإستقبال القبلي، وتبنيه لمنظومة سياسية ودينية لا تخرج في أساسياتها عن المألوف في المجال الإجتماعي والديني لدى الجمهور. المرحلة الثانية هي إنشاء نموذج الدولة القادمة أو البديلة عن طريق إنشاء تنظيم مضاد للسلطة القائمة، بمعنى آخر تحديد الأولويات الإقتصادية والسياسية والعسكرية للسلطة القادمة، ففي هذه المرحلة يرفع شعار الجهاد لإنهاء القائم عسكريا والحلول محله.إذن فالرواية التاريخية تتدحرج من البسيط إلى المعقد، ومن السياسة السلمية المبنية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى سياسة العمل العسكري المبنية على الجهاد وقهر الخصم السياسي . مشروع الإصلاح الذي قدمه في المرحلة الأولى عبد الله بن ياسين ينبني على ستة عناصر أساسية وهي: تحديد تعدد الزوجات إلى أربعة طبقا للشرع، لما عرف عن تعدد الزوجات لدى صنهاجة الصحراء وخاصة عند زعماء القبائل. العنصر الثاني مكمل للأول ويتعلق الأمر بالعدل بين النساء حسب ما نصت عليه الشريعة. العنصر الثالث تمثل في قاعدة عامة وهي معارضة الباطل ومحاربة الظلم. والعنصر الرابع ويبدو إقتصاديا وهو دفع الزكاة. العنصر الخامس تعلق بالمواظبة على صلاة الجماعة. والعنصرالسادس والأخير كان طلب إبن ياسين من صنهاجة الصحراء القيام ببناء مدينة تكون منازلها متشابهة في المساحة والعلو
تقيدا بالمذهب المالكي وبناءا عليه عمل إبن ياسين على تدريس المذهب وما تعاقد عليه مع نخبة القبائل الصنهاجية، فانتهج خطا إختار من خلاله جمع شرائح القبائل، خاصة وعامة، شيوخا وفقهاء. ولتعقيد الممارسة وتدعيمها إتخذ إبن ياسين موقفا من مسألة إندماجه داخل المجتمع، إذ رفظ أن يكون أكله وملبسه من الإقتصاد المحلي الصنهاجي، فهذا الرفظ يظهر كأنه حدث ثانوي ورد في المصادر التاريخية والجغرافية الوسيطية، ولكن إذا ما ربطناه بقاعدة الحلال والحرام وقاعدة الأمر والنهي، يتظح لنا أن إبن ياسين في إطار إستراتيجية قريبة المدى، وجه خطابا واضحا إلى مختلف شرائح المجتمع الصنهاجي مبني على ستة ركائز أساسية. الأولى هي أن مجتمع الإستقبال القبلي الصنهاجي مجتمع يعيش من موارد إقتصادية ومعيشية وتنظيمية، تدخل في إطار الحرام، ومن هذا المنطلق فإن الإعتماد على موارده وقدراته لا توافق مشروع إبن ياسين. الركيزة الثانية تعتمد على التحريم، إذ في تصور إبن ياسين لا يمكن لشخصية ترفع شعار الإصلاح أوتتبناه أن تبنيه من خلال الإستفادة ماديا من الموروث السابق. الركيزة الثالثة هي العمل على تطبيق قاعدة الأمر والنهي على النفس قبل الغير، فالمثال التطبيقي مارسه إبن ياسين على نفسه. الركيزة الرابعة ضرورة تفعيل خطاب الحلال والحرام وإقامة الحدود، وكان لا بد من الأخذ به عمليا وشخصيا قبل إقحامه إجتماعيا. الركيزة الخامسة هو أن تحريم الإقتصاد والمعيش ضمنيا يدخل في إطار مطالبة المجتمع الصنهاجي بالدخول في القواعد العملية والإصلاحية التي ينادي بها. الركيزة السادسة والأخيرة كانت تتعلق بالإنتماء، فحسب إبن ياسين كل شخص أو شريحة إجتماعية قبلت بالمشروع الإصلاحي تدخل مباشرة في مجتمع المؤمنين
تاريخيا ورغم أن المشروع يبدوا بسيطا وخطابه لا يغير القواعد القبلية من أساسها، فإن بعض شرائح المجتمع لم تقبل بهذا المشروع، فتزعم الفقيه الجوهر بن سكن والشيخين أيار وأنتاكو معارضة مشروع إبن ياسين ويحيى إبن إبراهيم. المصادر التاريخية لا تخبرنا عدديا عن تشكيلة الفريقين، ولكن من خلال الوصف نلاحظ أن الشرخ في الوحدة الصنهاجية كان كبيرا، نظرا لتعارظ المصالح بسبب وجود الداعية المالكي إبن ياسين. لقد أصبح مفهوم العصبية عنصر التضامن والتلاحم بين الشرائح يفقد من قوته، نظرا لدخول عناصر سياسية وإقتصادية وإجتماعية جديدة للمجتمع الصنهاجي. وعندما توفي يحيى إبن إبراهيم، الممثل للوحدة الصنهاجية قبل وبعد دخول الداعي المالكي، إندلعت المعارضة بقيادة دينية وقبلية محلية مستفيدة من الفراغ الذي تركه يحيى إبن إبراهيم، فكانت النتيجة طرد عبد الله وجماعته خارج المجال الصنهاجي. لقد كانت هذه المعارضة تتخوف من إعادة تركيب البنية الإجتماعية في إطار المشروع المالكي يفقدها الريادة داخل النسيج القبلي، خاصة وأن الزعامة ترتبط بالقبيلة المولد المنظوية تحت شعار الأصل القبلي. التعارض الذي حصل بين الشرائح الإجتماعية الصنهاجية كان مختلفا عن الصراعات السابقة، إذ نلاحظ أن الأمر لم يكن مرتبطا بالمعاش أي المراعي والماء وغنائم الحروب، وإنما حول مشروع سياسي وإقتصادي وإجتماعي بديل للبنية التقليدية القبلية، لذا فإن طرد عبد الله بن ياسين وجماعته بقيادة يحيى بن عمر وأبو بكر كانت نقطة فاصلة بين إستراتيجية السلم والحرب وبين المشروع ذو الطابع الديني الإجتماعي والمشروع السياسي والإقتصادي للحكم
المشروع الإجتماعي الديني كقاعدة أولية لحركة الإصلاح التومرتية إبتدأ مع وصول فقيه سوس محمد إبن تومرت حوالي سنة 1121 ميلادية إلى المغرب الأقصى قادما من المشرق العربي. فبدخوله مجال الغرب الإسلامي إنتهج سياسة النقد وتحميل المسؤولية للحاكمين والعلماء والطلبة والعامة ما وصلت إليه الأوضاع من تدهور، فكان خطه منذ البداية في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد راديكالية من سابقه. كمدرس ومصلح وداعية لم يتوقف عن توضيح الجهل بقواعد الدين المتفشية بالغرب الإسلامي، لذا كان المشروع الأولي ينبني على ثلاثة عناصر هامة تشكل خطابه السياسي. العنصر الأول ينبني على قاعدة محاربة كل المحرمات والشبهات والبدع، والثاني محاربة التقاليد الإجتماعية الخارجة عن حدود التشريع الإسلامي. والعنصر الثالث والأخير إحياء علوم الدين وإعطائها المكانة الأولى
إلى حين وصوله مدينة أغمات، نلاحظ أن إستراتيجية إبن تومرت لم تمكنه من الإستقرار، وإنما مكنته من خلق خلايا في أماكن عدة، كما منحت له تحركاته الإطلاع على عقلية السكان وأصحاب القرار الديني والسياسي.السلطة المرابطية وهي تعلم بخطر الدعوة التومرتية لاحقته من منطقة إلى أخرى جنوب مدينة مراكش، وفي ظل تطور الوضع الداخلي المرابطي وإستمرار سياسية المتابعة، حدثين بارزين سيسهمان في نهاية مرحلة العودة المشرقية. الأول إلتقاء إبن تومرت بأشد المعارضين لسلطة لمتونة في شخص الشيخ إسماعيل إكيك، الذي سيصبح من أهل العشرة في تنظيم أهل التوحيد، هذا الأخير الذي أعطى الحماية لإبن تومرت عند تنقله من أغمات أوريكة إلى المصامدة عن طريق مده بفرقة من200 محارب من قبيلته. والحدث الثاني رفظ إبن تومرت لسلطة علي بن يوسف المرابطي عند خروجه من مراكش، وحسب تعبير المصادر خلع عليه وعن أصحابه علي بن يوسف. لقد كان لقاء إبن تومرت بالشيخ إسماعيل إكيك عنصرا حاسما، لإن الداعي أنهى بحثه عن مجال مستقبل لدعوته كما لمح إلى ذلك مؤرخ الحركة البيذق. المجال المصمودي سيصبح مجال الدعوة التومرتية وسكانه قوة الجهاد ضد السلطة المرابطية، ولكن لا ننسى أن مجتمع الإستقبال القبلي كان هو الآخر ينتظر مشروعا سياسيا وإقتصاديا يخلص الجمهور المصمودي من السياسة المركزية المرابطية. إن إلتقاء قوى التغيير في المثال المصمودي كانت بداية صعبة ومتداخلة بتداخل المصالح والأهواء في مجال يخضع لتنظيم معقد وإستقرار قابل للإنفجار في كل لحظة. فبالرغم من وحدة الهدف، وهو الإطاحة بسلطة لمتونة، فقد كان صعبا على إبن تومرت الإسراع في تنفيذ المشروع التغييري دون إعادة ترتيب البيت المصمودي، لذا فمن أغمات إلى قبيلته هرغة تنقل إبن تومرت تسعة وعشرون مرة بين القبائل، حملة ورحلة سياسية أراد من خلالها الداعي لقاء السكان وزعماء القبائل ورؤساء العشائر، ففي الأسواق الأسبوعية والقرى والمداشر والأماكن التقليدية لتجمع القبائل إلتقى إن تومرت بالجمهور المصمودي ليعرف حاجياته الإقتصادية والإجتماعية والسياسية
لقد كان إبن تومرت على علم بقوة لحمة العصبية المصمودية، فحرك خطابه في هذا الإتجاه، إذ أعلن إنتمائه إلى المجتمع المصمودي خلافا لإبن ياسين، ورفع شعار العزة والقوة المصمودية وما لها من مستقبل سياسي داخل مجال الغرب الإسلامي. تماشيا مع ما عرف عنه عمل منذ البداية إلى نهج سياسة التحالفات الداخلية لتحييد المعارضة، فتحالف مع بني وكاس ليكونوا سندا له في إنهاء معارضة بني حمود. وجعل من قبيلته هرغة الحصن المانع لكل إنفلات أمني في فترة الدعوة، ومن جبل إجليز مقر الحركة ومركزها التنظيمي. لمدة ثلاثة سنوات عمل إبن تومرت على التعريف بنفسه وعلمه ومشروعه لدى المصامدة، واستعان بمعرفته باللغة البربرية، وكذا بنوع من الإندماج في الحياة الإجتماعية بدون رفظ ولا تهرب. وقد ظهرت ملامح أولية تفسر بناء شخصية جديدة على المستوى العملي حينما بدأ يختلي إلى مغارة وسط قبيلة هرغة مما زاد من شعبيته وسط القبائل