23 Juillet 2013
انظر ببصرة نفسك في نفسك إلى ما بين العقل والقوة المتخيلة من العجائب، ترى يقيناً أن العقل يأخذ من القوة المتخيلة معلومات هي المعقولات، حسب ما ذكرته، وإنه يعطي القوة المتخيلة معلومات آخر يبسها فيها: أما معلومات استنبطها العقل وبسطها في المتخيلة، مما يقدر الإنسان أن يصنعه بإرادته من آراء خلقية وصناعية وإما أن يعطي العقل القوة المخيلة معلومات يبسطها فيها من حوادث جرت في العالم يوجدها فيها قبل حدوثها، أو ما حدثت ولم تحصل في القوة المتخيلة عن حاسة، بل عن العقل الذي يخدمها، منها ما يكون بالرؤيا الصادقة، والعجب العجيب فيها ما يكون بالوحي أو بضروب الكهانات
وبين أن ما يعطيه العقل الإنساني للتخيل ليس هو منه ولا يضعه هو فيه، بل يفعل هذا الفعل فيه فاعل علمه قبل، قادر على إيجاده لا إلاه إلا هو هو سبب وجوده، ومحرك الأجرام الفاعلة بإرادته إلى أن تفعل ما يريده في الأجرام المنفعلة كما أنه لما أراد أن نعلم ما يحدثه في العالم أفاض على الملائكة علم ذلك، ومن ملائكته يفيض ذلك العلم على عقول الإنسان فيدركه إنسان إنسان بحسب ما وهب من الاستعداد لقبوله
وهذا ظاهر، في الأكثر، في الصالحين من عباده الذين هداهم الله، وأخلصوا به وبملائكته وكتبه ورسله، وعملوا بما يرضيه، فإنه يفيض عليهم، بتوسط ملائكته في الرؤيا، وغير ذلك، عجائب من الحوادث الحادثة في العالم
. وطرق إلى اليقين ببقاء النفس الناطقة إذا كملت، وكمالها أن تصير عقلاً بأن تعقل في ذاتها معقولات من التي هي عقل بالفعل، أحطها مرتبة عقل الإنسان وإذا عقل الإنسان هذه العقول، وصارت له عقلاً ومعقولاً، فتكون حينئذ صورة له يكمل بها كمالاً تاماً، بحسب ما للإنسان الكامل أن يكمل كأرسطو، أو بهداية من الله عز وجل كالأولياء. وبذلك يكون فعله في ذاته بذاته، وفعله هو أن يرى ببصيرة عقله وعمله يقيناً، وبذلك يرجع على ذاته بذاته فيكون الراجع والمرجوع إليه واحداً، كما قال الإسكندر، فيكون روحانياً لا جسمانياً، ولا يحتاج في وجوده إلى جسم، ولا أن يفعل في جسم، ولا في قوة جسمانية، وينبو عن القوة المتخيلة
وذل أن قوة الإنسان النظرية تفعل أولاً في القوة المتخيلة، وهي قوة في جسم، بأن تجرد من المخلوقات الشخصية المتخيلة معانيها بأن تفعل وتعلم ما كل واحد منها بأسبابها الكلية، ولا تزال قوة الإنسان العقلية تتزيد بالفكرة في المخلوقات، وتطلب أسبابها بإحضار المخلوقات في القوة المتخيلة حتى تتمكن معقولاتها، وتصير تلك المعقولات عقلاً، ويرى العقل ببصيرته تلك المعقولات فيه، فلا يحتاج عقل الإنسان إلى قوة جسمانية يفعل بها، بل يفعل في صورته بأن يقل ذاته التي هي عقل، فيكون فعله هو عقله، ويكون بذلك باقياً، وفعله هو ذاته، كسائر العقول التي لا يفنى فعلها
إن يعقل ويعلم لا يتحاج إلى شيء مادة هي سبب الفساد، وإنما حاجته إلى العقل الذي أوجده بما يفيض عليه، كحاجة سائر العقول العالية إلى العقل الذي فوقها وهو الذي أوجدها. والأعلى يفيض على الذي دون دائماً، والكل من السبب الأول على ترتيب. وهذا قد يكون كمالاً للعقل بطريق التعلم البرهاني حتى يتمكن ذلك صورة وقد نجد بالفعل ما هو أعلى من غير تعلم، على نحون ما يبلغه أصحاب الفطر الفائقة. فغن الكمال الإنساني الدائم قد يكون بأن يفيض على القوة الناطقة إذا كانت. دفعة أو بتدريج من العقل الفعال بصيرة يبصر بها الإنسان العالم، فيحصل له ما يحصل للواصل بالتعلم بعد التعلم من دوام الفيض وهؤلاء درجات أعلاها الأنبياء على درجاتهم، ثم الأخذون في أعمالهم و. بما جاءت به الرسل حتى يفيض عليهم ما يفيض على المتعلمي من غير تعلم، و.. أولياء الله على درجات
والمعطي هذا كله العقل الفعال يظهر أولاً للمتعلمين بصيرة يرون بها المعقولات الأول التي بها هؤلاء يمتحنون حتى يصلوا، فإذا وجد استعداداً فائقاً أعطى ما هو أكثر بحسب ما هو استعداد في استعداداً فلا يبعد أن يصل بما فطرته الأنبياء إلى درجات من الكمال أكمل مما يوصل بالعلم البرهانين إذ كان الإنسان بالاستعداد قوياً للقبول، فإن العقل الفعال أبداً يفيض عنه كمال تام للإنسان في الغاية. والتقصير إنما يلحق من جهة الاستعداد القابل لا من جهته. وكما يفيض عن كل واحد من العقول الثواني على ترتيب عقل شبيه به ليس هو، كذلك يفيض عن العقل الفعال عقل شبيه به ليس هو هو، يبقى ببقائه، لا يحتاج في وجوده إلا له، كسائر الثواني التي لا تحتاج في وجودها إلا للذي أوجدها بما يفيض عليها أبداً
وطريق الصوفية المستعدين للقبول، وطريق الغزالي من الطرق الموصلة، والطرق المأخوذة أولاً عن نبينا صلعلم
فأرى أن تمزج ما عندك من الكمال التعليمي بذكر الله عز وجل، وبالفكرة في كماله، بما عندك من اليقين بوجوده، وإنه عالم، وإن علمه بذاته فقطن وعلمه هو ذاته، فإنه يعلم جميع الأسباب من جهة علمه بذاته وبكمال ذاته التي بكمالها فاض وجودا ذلك الموجود، وإنه عالم بما فاض عنه، ولعلمه بذاته فيعلم ما يفيض عنه. فاعمل على تصفية نفسك بذكر الله وتعظيمه بصفاته على ما ذكر الشيخ أبو نصر في كتاب الله
وهو الموفق للحق لا رب غيره
يرتاض الإنسان أولاً ويقوى في تصور القوة المتخيلة التي. القوة الناطقة فيها أعمالها أولاً وفيها تظهر وهي الموضوع. إذا حصلت فيها متخيلات المحسوسات كلها أو جلها فأقولك
القوة المتخيلة الموجودة في الإنسان بالفعل، هي القوة التي يجدها الإنسان في نفسه، يرسم فيها رسوم المحسوسات، ويتصور بها ويحضر الإنسان فيها رسوماً من المحسوسات متخيلة بعد غيبتها عن الحواس، فيرى الإنسان فيها صفة زيد وعمرو وصفة داره ودابته وغير ذلك من المحسوسات المشار إليها، ويكون هذا الفعل من القوة المتخيلة في اليقظة والنوم
وهي التي تركب صوراً من المتخيلات لم يحس بها، بعضها صادقة مثل تخيلنا زيداً في وضع كذا أو صفة كذا إذا كان كذلك. وبعضها كاذبة إذا تخيلنا زيداً بصفة كذا أو في موضع كذا وليس هو كذلك، ومثل تخيلنا عنزاً برأس إبل أو براس فرس أو غير ذلك من الأمور المخيلة الكاذبة
وقد تركب وتتخيل أمراً ليس بشخص يحمل على أكثر من شخص واحد، فتحاكي صفة المعنى وتتخيله صنماً يعم أكثر من الواحد، ولا يعم كل ما يقال عليه المعنى، فتحاكي الإنسان وتتخيله فيها منتصب القامة ذا لحم وعظم متغذياً حساساً. لكن تتخيل الإنسان بمقدار ما، ولذلك لا يعم ذلك المتخيل كل إنسان. وللعقل في هذا التخيل فعل ما
وإذا تأمل الإنسان جميع ما ذكرته في نفسه وجد القوة المخيلة في نفسه على ما ذكرته لا شك فيه ولا في وجودها. وكذلك وجود القوة الناطقة يجدها الإنسان في نفسه، ويعلمها علماً يقيناً لا يشك فيه بشيء من التثبت. وذلك أنا نجد في أنفسنا ما نتميز به ونفصل عن سائر الحيوان المتغذي الحساس، فإن الإنسان يجد في نفسه معلومات تحتوني على ميز الجميل والقبيح والنافع والضار يحوزها ويميزها، ويجد في نفسه أموراً يرى صدقها لا شك فيه، وأموراً هي على ظن، وأموراً هي كذب لا يجوز في الوجود. كل هذه المعلومات يجدها الإنسان في نفسه
وهذه المعاني المعلومة في النفس تسمى نطقاً، وما يوجد في الإنسان يسمى ناطقاً. والنطق يقال على القوة الناطقة بالقوة التي شأنها أن توجد فيها هذه المعلومات، لأن الإنسان يوجد وليس فيه هذه القوة، وثم يقبلها، فتكون فيه بعد أن لم تكن، فقبل أن يقبلها له قوة شأنها أن تقبلها ليست في الفرس ولا في الحجر. ويقال أيضاً نطق على هذه المعلومات إذا كانت بالفعل موجودة بالقوة التي شأنها أن تقبلها، ويقال نطق على الألفاظ حين نعبر بها عن هذه المعلومات الحاصلة بالفعل. وكل هذا بين بنفسه بأدنى تأمل
وهذه المعلومات الحاصلة بالقوة الناطقة بالفعل متى أخذت بالإضافة إلى الأشياء المأخوذة عنها سميت علماً، لأنها علم بها، ويه التي عرفتها، ومتى أخذت من حيث أدركتها قوة توصف بها، وتحمل على موضوعاتها المأخوذة عنها، سميت معقولات. ومتى أخذت من حيث أدركتها القوة الناطقة، وكملت بها، وخرجت بها من القوة إلى الفعل سميت عقلاً
والنطق يخرج من القوة إلى الفعل بأن يحصل في نفس الإنسان معلومات. وحصول المعلومات يكون بدرجات أولها علم هذا المشار إليه. وهذا يكون أولاً بحصول حال هذا المشار إليه في القوة المتخيلة حصولاً مجملاً دون أن يجوز التخلي فيه، ويبرز صفة من صفاته، لا أنه الأبيض ولا أنه الطويل ولا النحيف، بل يميزه مجملاً، ولا يلتفت إلى صفة من صفاته، وهذا لضعف العلم بالشيء يشبه تخيل الحيوان الذي له تخيل. ثم إذا تمكن حال هذا المشار إليه في القوة المتخيلة، ارتقى الإنسان إلى هذا المشار إليه بصفات مفصلة يعرفه بها بالإضافة إلى مشار إليه واحد بعينه في العدد يميزه منها فيميز زيداً بأنه الطويل الأبيض النحيف، ويأخذ هذه الصفات في التخيل كأنها شيء واحد بعينه في العدد، مضافة إلى مشار واحد بعينه في العدد، ذ هي مضافة إلى واحد بعينه في العدد يميزه منها فيميز زيداً بأنه الطويل الأبيض النحيف، ويأخذه هذه الصفات في التخيل كنها شيء واحد بعينه في العدد، مضافة إلى مشار واحد بعينه في العدد، إذ هي مضافة إلى واحد بعينه. ولذلك زعم قوم ن ما تدل عليه الألفاظ باطل، إذ كانت تدل على كثرة فيما ليست فيه كثرة ولا هو كثير، لأن هذا المشار إليه الذي هو الطويل والأبيض ليس بكثير. وهذا كما ذكر الشيخ أبو نصر مخالفة للمحسوس وللمعارف وخروج عن الإنسانية. وبهذه المعرفة تحصل للإنسان المعرفة بالأشخاص من جهة ما هي أشخاص مشار إليها، وبها يحصل شخص زيد ويعلم. والصفات التي يعرف بها على النحو الذي ذكرته هي أشخاص الأعراض التي لا يوصف بها سواه، ولا يقع بها تشابه بين اثنين أصلاً، لأن تلك الأعراض لا يوصف بها سواه، لأن البياض الذي في زيد ليس هو البياض الذي في عمرو. به ما هو شخص بياض. وبعد حصول المتخيلات في القوة المتخيلة على هذا النحو تكون القوة الناطقة تنظر ببصيرتها فترى المعاني الكلية التي تحمل على ما في القوة المتخيلة، وبها تخيل وتميز ما هو كل واحد منها
وإذا ذكرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني الكلية ميزتها وأحضرتها ورأتها، وذلك على ثلاث جهات: إحداها: أن تحضر القوة الناطقة هي هذه المعاني الكلية، وتراها في الأشخاص المتخيلة التي أخذتها عنها، فتحضر القوة الناطقة التي لزيد المعنى الكلي، وتراه ببصيرتها في أشخاص غير الأشخاص التي تراها فيها قوة عمرو، والناطقة على هذا تميز المعاني الكلية عند الجمهور وعند أولي النظر، فتكون المعاني الكلية متميزة عند الجمهور على هذا النحو فيرونها في أنفسهم ويحضرونها على ما ذكرته
والجهة الثانية: أن تميز القوة الناطقة هذه المعاني الكلية حق الميز، لكن متى رأتها ببصيرتها، وحضرت في النفس مرئية، فإنما تراها ببصيرتها في القوة المتخيلة أيضاً وإن تفعل القوة المتخيلة أيضاً، ما شأنها أن تفعله من المحاكاة، بن تحاكي المعنى الكلي، وتصور فيها صنماً يعم أكثر من واحد، ولا يعم كل ما يقال عليه ذلك المعنى، كما يحاكي المصور صورة فرس من حجارة وكما يخطه الرسام في بسيط، لكن ما تحاكيه القوة المتخيلة أكمل، لأنها تحاكي، لأنها تصور صورة فرس متغذ صهال، لكن ما يعم كل ما تحايكه كل فرس، لأنها إنما تحاكي الأشياء محدودة بنهايات ومقدار من المقادير، فلا يعم صنمها مثلاً الفرس الكامل والمتوسط ولا المهر، وإنما يعم صنمها ما كان على المقدار الذي حاكته. فإذا ميزت القوة الناطقة المعاني الكلية، ورغبت إلى إحضارها لتراها وتبصرها ببصيرتها عند الفكر أو عند التفهم بالقول والمخاطبة، فإنما تراها ببصيرتها في الصنم الذي حاكته القوة المتخيلة. لكن القوة الناطقة تميز في ذلك الصنم أن عمومه ليس على الكمال، فلا يضرها ذلك فيما تفكر فيه وتبحث عنه في ذلك المعنى المعقول. وعلى هذا النحو من التمييز تتميز المعاني الكلية عند الصناع وعند أكثر من ينظر في العلوم فإن الصانع عندما يفكر كيف يصنع مصنوعاً ما، يحضر صنم ذلك المصنوع فيميزه ويتخيله ويدبر كيف يصنع، وكذلك الناظر في العلوم. معلوماته ليعلم ما هي وغير ذلك مما يوصف يحضرها أصنافاً في القوة المتخيلة
وبهاتين الجهتين تخدم القوة المتخيلة القوة الناطقة بأن تحضر فيها خيالات الأشياء، إما خيالات أشخاص بأعيانها وإما صنماً يحاكي المعنى الكلي على النحو الذي ذكرته، فنأخذ القوة الناطقة في المتخيلات صفات كلية. ومن رأى أعمال القوة الناطقة في المتخيلات التي في القوة المتخيلة، حسب ما ذكرته، رأى تحقيق ما ذكرته يقيناً لا شك فيه، ورأى بقوته الناطقة حين قاضت عليها الموهبة، تلك الموهبة، كما نرى بقوة العين ضوء الشمس بضوء الشمس. والسبب القريب في الشمس، نبصر بها ونرى مخلوقات الله تعالى حتى نكون ممن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة إيماناً يقيناً، فنكون من الذين "يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار". ولا فكرة إلا بتلك الموهبة، وتلك الموهبة هي اتصاله بالعقل الفعال
ولنرجع فنقرر ما ذكرناه على جهة الارتياض ليتمكن ولا بد من مساق القول من قبل ما مد فأقول: يجب على الإنسان أولاً حتى يرى ببصيرة نفسه القوة المتخيلة كما يرى الأشخاص ببصره ويميزها حق التمييز، ثم ينظر إلى القوة المتخيلة من حيث تتكرر عليها أشخاص المخلوقات، وكثر من المتخيلات فيها ماله شخص واحد، وماله أشخاص كثيرة، وما يتعلق بالأشخاص من الأعراض من مقدار ولون وعلم وصحة ومرض وحركة وزمان ومكان وغير ذلك من أشخاص المقولات، فإذا فعل هذا رأى ببصيرة نفسه أن للقوة الناطقة نظراً في المتخيلات تدرك بها ما تشترك به وما تتباين به المتخيلات الحاصلة عن أشخاص المخلوقات. والمعاني التي تشترك بها والتي تتباين بها هي الصفات والمحمولات والمعقولات التي تتميز بها وتوجد معلومة بها. وإذ ذاك فانظر كيف تكشفت هذه المعاني المدركة للقوة الناطقة بالموهبة الفائضة عليها كما تنكشف للبصر المبصرات بنور الشمس بعد أن كانت مغيبة، قبل أن يفيض على هذه نور الشمس وعلى تلك موهبة الله عز وجل التي بها نرى الكل وأجزائه، تحكم أن الكل أعظم من جزئه، وبها نرى الأعداد المأخوذة في معدودات مختلفة إذا قدرها الواحد و.. الأعداد المأخوذة في المعدودات المختلفة متصلة بعضها.. وإذ تكرر النظر في مخلوقات حتى يحضرها الإنسان في القوة المتخيلة، وفكر في مخلوقاته وفي خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار. والوحي والرؤيا وما تنطق به ألسنة الكهنة، تكشف القوة الناطقة. ببصيرتها، والتزمت التزاما ضروريا وجود موجودات لم تدرك بخيال ولا بحس، بل أدركتها القوة الناطقة علماً محضاً مختصاً بها، أدركته فيها وبها، وحينئذ ترى الناطقة ببصيرتها المعلومات فيها وتنبو عن التخيل، وإذا ذاك يتسع نظرها، وتتشوق إلى معرفة أسباب المخلوقات التي عقلتها. فإنها لا ترى أنها علمت المعلومات على ما ينبغي حتى تعلمها بالأسباب الأربعة، فيما كانت له الأسباب الأربعة، أعني إلى معرفة صورة الشيء، وما توجد فيه الصورة من المواد ومن الموضوع، وفاعله، والغاية التي لأجلها وجد. فإن الإنسان بالطبع يتشوق إلى معرفة هذه الأسباب ويبحث عنها ويسأل حتى في الأمور المحسوسة عن الأسباب الجزئية. ومثال ذلك بين في كل مصنوع وفي كل طبيعي
والإنسان في الأمور المعقولة أشد تشوقاً لمعرفة أسبابها لنه نظر أعلى وأرفع وأنفع، فإنه بطلب الأسباب يصل الإنسان إلى الإيمان بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله وبالحياة الآخرة
والتفاضل في موهبة الله التي بها تبصر القوة الناطقة متفاوت بحسب ما يعطيه الله أيضاً في أول خلقه الإنسان من الاستعداد لقبول الموهبة التي بها تبصر القوة الناطقة
وهاتان الموهبتان ليستا بمكتسبتين، وإنما يكتسب ما بعدهما لمن وفقه الله تعالى إلى العمل. بما يرضيه، فهذا هو الكمال الإنسان، ولا يوجد إلا بما تأتي به الرسل عن الله عز وجل، فمن اتبع هوه فلا يضل ولا يشقى. فلسرد الإنسان نفسه بما حض عليه صلوات الله عليه، وندب إليه، وليجعل ذكره كله ونظره في مخلوقات الله عز وجل ودرجاتها في الكمال، كمال الوجود، فيرى ببصيرة قلبه ما هو كل واحد منها، وعما هو، إلى أن ينتهي بالضرورة إلى أن يعلم ببصيرة قلبه أن الله خالق جميعها، وإنه وحده لا شريك له، وأنه واجب الودود بذاته، وإن كل ما سواه من الموجودات حادث ممكن الوجود من جهة ذاته واجب الوجود بذاته، لا إلاه إلا هو، خالق كل شيء، وهو بل شيء عليم. وعلمه بالأسباب جهة علمه بذاته، لا أنه يعلم الأشياء من جهة الأشياء، كما نعلمها نحن، ولذلك علمه هو هو. ولما صدرت جميع الأشياء عن كمال ذاته فهو يعلم الأشياء لعلمه بما صدر عنه، ألا يعلم من خلق، وعلمه بالأشياء هو سبب وجودها. صانع لسبب مصنوعه الذي يخرجه إلى الفعل إنما هو علمه.. وارتفاع العوائق لكن يحتاج إلى الأسباب ولها بأيدينا. والله عز وجل لا يحتاج إلى آلة، بل إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. والصانع لمصنوع ما يعلم ما في موضوعه استنبطه فأخذه بالفعل من علمه. في مصنوعه، فليس علمه بما في مصنوعه من جهة مصنوعه، بل من جهة علمه بما صنع، وكل من سوى ذلك الصانع منا إنما يعلم بما في ذلك المصنوع المستنبط من جهة ذلك المصنوع المشار إليه بالفكر والبحث، حتى يحصل له ما كان في نفس المستنبط له، ولا سيما في الأمور الغريبة الاستنباط مثل ميقاتة الزرقالة، وكذلك مخلوقات الله عز وجل ما نعلم نحن فيها ما نعلمه من جهتها ومن جهة الفكر فيها ببصيرة القلب، والله عز وجل يعلمها من جهة علمه بما خلق وابتدع فإنما الإنسان ولي ذلك الإنسان
خذ نفسك واعمل ببصيرتك في مخلوقات الله عز وجل حتى نوصلك إلى المعرفة به
"إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً
وإذا علمت الله عز وجل وكتبه ورسله فمن أصل ممن نسيه "نسو الله فأنساهم أنفسهم" ومن نسي نفسه ضلالاً بعيداً، إذا لا طريق له إلى الهداية، وصار في ظلمات الشهوات من اتخذ ألهه هواه. فكن ممن جعل هواه ذكر ربه بقلبه، ووالي ذلك بجهدك يهديك الصراط المستقيم، "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"