27 Juillet 2013
قال: وأَجزاءُ القول الخطبي الضرورية إِثنان: أَحدهما الغرض وهو الأَمر الذي يقصد إِليه بالتكلم، فإِنه من الاضطرار أَن يذكر الشيء الذي فيه القول ليعلم الشيء الذي يتوجه إِليه الإِثبات أَو النفي؛ والآخر التصديق، وهو القول المثبت أَو النافي
قال: وأَما الجزءُ الذي يسمى الاقتصاص الواقع في الخطب فهو خاص بالكلام الخصومي. أَما الكلام المنافري والمشاوري فليس يستعمل فيه الاقتصاص، لأَن الاقتصاص إِنما يستعمل فيما يلقي به الخصم، لا بالكلام البراني، أَعني الموجه نحو السامعين
قال: وأَما الجزءُ الذي يسمى الصدر، والجزءُ الذي يسمى الخاتمة فأَكثر الحاجة إِليهما في الجزء المشاوري، لأَنه يقوم مقام تمثيل الشيء الذي فيه يتكلم وتحديده أَولاً والتذكرة به آخراً، فيتحصل به الغرض الذي يتكلم فيه تحصيلا جيدا. وذلك شيءٌ يحتاج إِليه في الكلام في هذا الجنس ليقايس بين الحجج المثبتة له والمبطلة ولئلا يذهب المعنى أَيضا لكثرة تكرر القول وتشعبه. وقد يحتاج إِلى الصدر في الكلام الخصومي، إِذا كان متشعبا يخاف أَلا ينضبط فيه الغرض. وأَما إِذا كان الكلام قصيرا، فليس يحتاج إِليه. وكذلك لا يحتاج إِليه في الأَقل في المشوريات، أَو يكفي منه اليسير
قال: وإِذا كان الأَمر في هذه الأَجزاء كما وصفنا فالأَجزاء الاضطرارية هما إِثنان: الغرض المقصود له، والتصديق. وجميع ما يلقى به الخصم فهو من التصديقات
قال: والخاتمة أَيضا تكثر في الخطب، لأَنها جزءٌ من أَجزاءِ التصديق، إِذ كانوا يخبرون فيها بالشيء الذي فيه القول بإِجمال وبالشيء المقول فيه ليس لأَن يثبتوا ذلك وليقولوا فيه قولا، بل على جهة التذكير بما قد تقدم فيه فقيل
قال: فإِذا عددت بالجملة أَجزاء القول الخطبي كانت خمسة: اقتصاص بعد اقتصاص، وهي الخاتمة التي تُذكّر بالتصديق وبالغرض؛ واقتصاص قبل اقتصاص، وهي رسم الغرض قبل الغرض؛ ورسم التصديق قبل التصديق، وهو القول المثبت أَو النافي
قال: ولكن ينبغي أَن توضع لهذه المعاني الخمسة - إِذ كانت مختلفة - أَسماء، كما يفعله أَهل الصنائع، يريد أَن يسمي الجزء الأَول صدراً، والثاني الغرض، والثالث الاقتصاص، والرابع التصديق، والخامس الخاتمة
قال: والصدر هو مبدأُ الكلام، وهو الذي يستفتح به الكلام، ونسبته إِلى الكلام نسبة فواتح الأَشياء إِلى الأَشياءِ، وذلك مثل فاتحة الزمر إِلى الزمر، وما أَشبه ذلك. فإِن الفواتح مبادئ للأَشياءِ التي تأتي بعد، وتدريجات لما يجيء منها واحدا بعد واحد
قال: وفاتحة الزمر شبيهة بفاتحة الكلام المنافري. فإِنه كما أَن الذين يزمرون بالأَنابيب، إِذا أَرادوا أَن يجيدوا الزمر، إِنما يترنمون به أَولاً، ثم أَنه بأَخرة يضمون ويجمعون الزمر، كما ينبغي أَن يكون الذي يتكلم بالكلام التثبيتي، أَعني المنافري، أَعني أَنه ينبغي للذي يريد أَن يجيد قوله أَن يبين فيماذا يتكلم ثم يتدرج حينئذ إِلى سائر الكلام ويضم ويؤلف. وهكذا نجد الخطباء يفعلون أَجمعين
قال: والبرهان على وجود هذا المعنى للصدر، أَعني أَنه يضبط الغرض الذي فيه القول ويحدده، صدر الكلام الذي لفلان حيث ابتدأَ فقال حين أَراد أَن يشرع في ذكر امرأَة مشهورة عندهم ورجل مشهور: إِنه ليس هاهنا شيء يختص بذكر فلانة دون فلان، بل هما فيه معا. وذلك أَنه إِذا فعل الخطيب هذا، لم يمكنه أَن يروغ أَو يحيد عن الغرض الذي ذكره، فيأتي كلامه كله مستويا
قال: وقد تُعمل صدور الكلام المشوري من المدح أَو الذم، كقول فلان في أَول مقالته التي تدعى كذا حيث يريد أَن يمدح الذي يؤلفون من العيد: إِنه قد يجب أَن يكثر التعجب من اليونانيين الحكماءِ
قال: وكذلك الصدور التي في المشوريات هي أَيضا جزءٌ من المشوريات، مثل أَنه إِذا أَراد أَن يشير بإِكرام قوم يبدأُ فيقول: إِنه ينبغي أَن يكرم الخيار. وإِذا أَراد أَن يشير بذم قوم، افتتح الكلام: إِنه ليس يجب أَن يمدح الذين لم ينجحوا قط ولم يصنعوا شيئا يظهر لهم به خير أَو فضيلة. وكذلك الخصوميات تكون الصدور فيها من نوع الكلام الذي يقصد به السامع، لا الخصم
قال: وإِنما يضطر إِلى الصدور إِذا كان الكلام كثيرا، إِما من أَجل أَن الأَمر المتكلم فيه عجيب، أَو من أَجل أَنه صعب، أَو من أَجل أَنه شغب يكون فيه كالكلام الذي يكون في الامتنان بالعفو، وذلك مثل قول القائل في ابتداء خطبة العفو: الآن رمى ما كان فكل شيء هدر
قال: وبالجملة: فصدور الكلام: أَما التثبيتي فتكون من المدح والذم، وأَما المشوري فمن الدعاء ولا دعاء، وأَما الخصومي فمن الشكاية التي يقصد بها السامع
قال: وينبغي أَن تكون حواشي الكلام إِما غرائب وإِما أَهليات، يريد - فيما أَحسب - أَن يكون الذي يستفتح به الكلام إِما مثل غريب منبئ عن الشيء المتكلم فيه، وإِما مثل مشهور، مثل أَن يستفتح الخطب التي يشار فيها بالأَخذ بالحزم وحسن النظر أَو في التي يقصد بها الشكاية: قد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين
قال: والصدور ينبغي أَيضا أَن تستعمل في الكلام الخصومي، فإِنه يوجد لها فيه الفعل الذي تفعله صدور الكتب والأَشعار. فإِن الصدر بالجملة إِنباء عن الكلام المقصود، يراد به أَن يتقدم السامعون فيعلموا فيماذا يتكلم المتكلم، وأَلا يكون للفكر تعلق في حين الكلام في معرفة الشيء الذي يتكلم، مثل ما يعرض له في الكلام المهمل الغير المحدود، فيضلله ويغلطه. ولذلك ليس الكلام الذي بهذه الصفة، أَعني الذي ليس له مبدأ يدل عليه، مثل الكلام الذي يكون متبعا لمبدئه ومنبئا ومنبها عليه، مثل قول فلان لما أَراد أَن يذكر فلان بأَفعاله ابتدأَ فقال: انبئيني عن الرجل الكثير المكائد الذي حسم أُمور كثيرة من بعد ما خربت المدينة العامرة. وليس يفعل هذا الخطباء فقط، بل والشعراء الذين يعملون المديح وغيرهم من أَصناف الشعراءِ
قال: والعمل الخاص بالصدور الذي يوجد لها اضطراراً وهو غايتها وتمامها إِنما هو أَن ينبئ عن الشيء الذي يتكلم فيه ما هو حتى يكون ذلك الشيء معلوما منه وفيه. وإِذا كان الأَمر المتكلم فيه يسيرا، فليس يحتاج إِلى التصدير
قال: وقد يتقدم الكلامَ في الشيء وجوهٌ من الحيل التي وصفناها فيما تقدم وهي خاصة ببعض الكلام، لا عامة. وتلك الوجوه من الحيل منها ما هي مأخوذة من قبل المتكلم نفسه، ومن السامع، ومن الأَمر الذي فيه يتكلم، ومن الخصم. أَما الذي يكون من قبل المتكلم ومن قبل خصمه، أَما في الشكاية فمدح نفسه وتعظيمها وتنقص خصمه. وليس المتكلم والمجيب في تقديم الكلام في ذلك بحال واحدة، لأَن المجيب ينبغي له أَن يبدأ بالجواب في إِنكار الشكاية، وأَما الشاكي فينبغي أَن يبدأ بتقديم الكلام على الشكاية. وأَما المجيب فقد كفاه الشاكي أَن ينبئ أَول كلامه عن الغرض، فلذلك ليس يحتاج إِلى تقديم الكلام. وبالجملة فالذي يجيب على المجيب هو أَن يبادر إِلى دفع الشكاية عن نفسه ويقطع عن ذلك جميع العوائق ولا يتوانى في ذلك ويؤخر تلك الأَشياء التي هي حيل واستدراجات للحكام إِلى آخر كلامه. وأَما الشاكي فينبغي أَن تكون شكايته بتقديم الكلام، أَعني التصدير، ليكون السامعون أَذكر للأَمر. وأَما الحيل التي يبدأ بها مما هي نحو السامع فهي إِيجاب الشفقة عليه والمحبة له والغضب على خصمه، وذلك بأَن يثبت عنده أَنه ذو قرابة منه أَو بينه وبينه علاقة نسب، أَو بضد ذلك. فإِنه ليس في كل موضع ينفع تثبيت القراة والمشاركة في النسب، بل ربما أَدى ذلك إِلى الضحك والسخرية ممن يدعي ذلك، إِذا كان ما يدعيه غير معروف. ومما يستدرج به السامعون أَيضا بسطهم وإِيناسهم، وذلك أَن البسط والإِيناس مما ينتفع به عند كل شريف من الناس ونفيس. ويجب للذي يريد أَن يثبت أَنه خير وفاضل أَن يعتمد ذلك عند الذي بينه وبينهم قرابة أَو صلة، وكذلك عند القوم الذين يكون مألوفا عندهم أَو عجيب المنظر. فإِن لم يكن عندهم واحداً من هؤلاءِ، فقد ينبغي أَلا يشتغل بالأمور التي من خارج، ويثبت - إِن كان مجيبا - أَن الأَمر الذي ادعى به عليه يسير أَو غير مؤذٍ؛ وإِن كان شاكيا أَن يبين أَنه مؤذِ ومكروه عظيم. وكل هذه الأَشياء هي خارجة عن الأَمر الذي يتكلم فيه، وهي كلها موجهة نحو السامعين، أَعني الحيل الخارجة والصدور. فلذلك إِذا كان واجبا على المتكلم أَن يصدر الكلام، فينبغي أَن يكون الصدر بقدر الكلام، فإِن الصدر إِنما هو ليكون للكلام رأس كما للجسد
قال: وأَما تثبيت الخطباء القرابة فإِنه عام لجميع أَجزاءِ الكلام الخطبي. وذلك يكون في كل حال إِذا كان السامعون عالمين بالقرابة غير شاكين فيها
قال: ومما يستحق فاعله الهوان أَن يكون التصدير بالأُمور الصعبة على النفوس الكريهة المسموع، ولا سيما إِذا تأَمل السامعون أَو تفقدوا ما يكون من ذلك، مثل قول القائل: إِنه لا يكون هذا حتى أُقتل، أَو أَنه ليس هاهنا شيء هو لي أَكثر مما لكم، أَو أخبركم خبرا لم تسمعوا بمثله قط في الغرابة أَو الشدة. ومن هذا النوع الذي ذكر تستقبح بداءآت كثير من الأَشعار مثل استقباح عبد الملك بن مروان لاستفتاح جرير
أَتصحو بل فؤادك غير صاح
ومثل ما استقبح استفتاح أَبي الطيب
أَوه بديل من قولتي واها
وقوله
كفى بك داء أَن ترى الموت شافيا
وهذا كثير في أَشعار العرب وخطبها
قال: أَما ما كان من هذه الأَشياء نحو السامع فبيّن، وأَما ما كان منها نحو الأَمر نفسه فبين واضح من هذه الأَشياءِ. والذين يكثرون الصدور والحيل التي نحو السامع إِنما يفعلون ذلك حيث يتشعب عليهم الكلام إِما لجهلهم، وإِما لعدمهم الفضيلة، أَو للأَمرين جميعا. ولذلك الشرار أَو الذين يظن بهم الشر قد يفعلون ذلك لأَن تطريقهم وتدريجهم للأُمور التي يتكلمون فيها في كل حال هو أَمثل. ولذلك ما صار العبيد ليس يتكلمون في الشيء الذي يُسئلون عنه، وإِنما يتكلمون في الأَشياء الخارجة عن الشيء الذي يُسئلون عنه
قال: فأَما من أَين ينبغي أَن يؤنس السامعون أَو يحتال لأُنسهم فقد قيل في ذلك وفي غيرها من الانفعالات النافعة عند السامعين وكيف تكون إِجادة هذا الفعل في المقالة الثانية من هذا الكتاب
قال: والأَقوال المديحية يحتاج فيها أَن يجتهد في إِيهام السامع ذلك الأَمر الذي يقصد تثبيته ويوقع عليه ظنه. وينبغي مع هذا أَن يمدح المرء إِما بحضرته أَي بمدينته، وإِما بحضرة جنسه، أَو بحضرة من يتصل به، فإِنه أَسرع لقبول مدحه. فإِنه كما قال سقراط: ليس يعسر أَن يُمدح أَهل أَثينا عند أَهل أَثينا، وإِنما يعسر أَن يمدح عند أَهل لوقيا، يعني أَعداءهم
قال: وما كان من الكلام المشوري فهو يشبه الكلام الخصومي، فإِنه ليس يحتاج فيه كثيرا إِلى تقديم كلام وتصدير، من أَجل أَن السامعين يعرفون الشيء المتكلم فيه، إِلا أَن يكون محتاجا إِلى تقديم الكلام من أَجل نفسه، أَو من أَجل الذين ينظرون في الكلام، إِذا لم يعلموا الأَمر الذي يتكلم فيه، إِلا أَن يريد أَن يوهمهم أَن الشيءَ النازل به ليس خاصا به ولا صغيرا بل هو عام وعظيم، أَو أَنه بضد هذا، أَعني خسيسا وصغيرا. والذي يحتاج إِليه ضرورة في الخصومة هو القول في تثبيت الشكاية والاحتجاج لها والتكبير والتصغير لها
قال: وينبغي أَن ينظر في الأَشياء التي تتنزل من الأَقاويل الخطبية منزلة التزويق والتزيين، وذلك كالذي يكون في الأَشياء المموهة التي يظن بها أَنها بحالة ما، وليس هي كذلك بالحقيقة. وهذا قد يكون في المدح، ويكون أَيضا في الاعتذار عن الشكاية. والشكاية بالجملة إِنما يقع الإِقناع بها بأَن يثبت المرءُ الشاكي على أُولئك الذين يشكو بهم سوء الهمة أَو سوء السيرة. والمشتكى منه إِنما يجيب بأَن يثبت أَنه لا فرق بين أَن يدعي هذه الشكاية أَو لا يدعيها. وهذا هو أَحد المواضع التي يجيب منها المشتكي منه، وذلك إِذا لم يعترف أَن الأَمر كان. فإِن الخصومات أَجمع إِنما تكون المنازعة فيها من المدعى عليه إِما بأَن الأَمر لم يكن، وإِما بأَنه كان وليس ضرراً ولا جوراً، وإِما أَنه ليس على هذه الصفة التي ذكر الشاكي كان الفعل، وإِما أَنه لم يكن بهذا القدر الذي ذكره أَو أَنه ليس عظيما أَو أَنه ليس قبيحا أَو ليس له خطر. ففي هذه ونحوها تكون المشاكسة والمنازعة بين المتشاكسين والمتنازعين
ومن هذه المواضع يقع الاعتذار أَما أَولاً فأَن يعترف أَنه أَضر ولكنه لم يقصد ذلك ولا تعمده وإِنما قصد الجميل أَو النافع لا غير ذلك
وموضع آخر: أَن يعترف أَنه أَضر ولكن بالإِكراه، لا بالطوع ولا بالاختيار والإِرادة. وموضع آخر: وهو أَن يوجد الشاكي قد افترى الشكاية قَبْلُ على إِنسان ليس متهما، أَو كان معروفا بالشكاية والافتراءِ. وهذا الموضع هو بالجملة أَن يبين المجيب أَن الشاكي به غير موثوق وأَن كلامه غير مصدق عليه. وموضع آخر وهو مأخوذ من دعوى مخالفة الباطن للظاهر لمصلحة يدعيها في الفعل الظاهر: وهو أَن يدعي أَن ذلك الفعل منه لم يطابق ظاهره فيه باطنه، وأَنه كان فيه كالمنافق لمصلحة يدعى في ذلك، مثل أَن يحنث في يمين ويدعي أَن ظاهره كان في ذلك غير موافق لباطنه، وإِنه كان في ذلك كالمنافق لمصلحة ما قصدها
وموضع خامس: وهو أَن يدعى لذلك الفعل مقصدا أَو حكما غير الذي زعمه الشاكي. وهذا الموضع والذي قبله يعمهما أَن يدعي أَن الفعل الواقع قصد به غير الذي زعم الشاكي، وذلك بأَن يصف كيف كان وقوع ذلك الفعل. وموضع آخر للذي يخجل من شيء يذكره: أَن يمدح قليلا ويذم كثيرا. فإِن الشكاية ليس في وقوعها معرة من المذمومين، أَو يذكر منه فضائل كثيرة ثم يذمه من الجهة التي افترى بها
وهكذا يفعل أَهل الحذق والنفاذ والدَّهىْ، فإِنهم يقصدون أَن يضروا بالخيار من الناس بأَن يصفوهم بالأَمرين جميعا، أَعني بالخير والشر، من قبل أَن الشر ممكن وقوعه من أَهل الخير. ولو وصفوهم بالشر فقط، لم يكن ذلك مما يظن بهم
قال: والموضع المأخوذ من توجيه جهة الفعل هو عام للذي يخجل وللذي يتنصل معا، لأَن الشيءَ الواحد يمكن أَن يفعل من أَجل علل شتى. فالذي يخجل يوجهه إِلى الشر، والذي يتنصل منه ويعتذر يوجهه إِلى الخير
قال: وأَما الاقتصاص فقد يكون في الجزءِ المنافري. وينبغي - إِذا كان الاقتصاص إِنما هو تصديق ما موجز يتعجل وقوعه قبل التصديق التام - أَلا يؤتى به على النسق والتركيب الذي يستعمل في الأَقاويل التصديقية، بل قد يؤتى به مفردا وعلى غير نسق
قال: وينبغي أَن يبين وجود الأَفعال التي منها تعمل الدلائل على الأَشياءِ المقصودة التثبيت. وهذه الأَفعال منها ما يكون تثبيتها بالأُمور الخارجة ومنها ما يكون بطريق صناعي، وهي المثبتة بالقول. ولأَن التثبيتات تختلف: فمنها مشتبك متشعب، كتثبيتك في الفضائل الكثيرة أَنها موجودة للمدوح، أَو للشيءِ الذي هو موجود له منها، أَو اَنه موجود له عدد ما منها، أَو أَنه موجود له كل شيء منها. فقد ينبغي أَلا يكون الاقتصاص الواقع في هذه الأَشياءِ على نسق، لأَن التثبيت الذي يكون على نسق مما يعسر حفظه؛ بل ينبغي أَن يكون الاقتصاص في هذه على غير نسق ومجملا
قال: وأَما إِذا كان الموصوف فإِنما ينفرد بفضيلة واحدة مثل أَن يكون شجاعا أَو حكيما أَو ناسكا، فإِن التثبيت في مثل هذا يكون بسيطا. فأَما الأَول فمشتبك وغير بسيط. وكأَنه يريد أَن الاقتصاص في المدح البسيط ليس يخالف التثبيت في عدم التركيب والنظام، وإِنما يخالفه في ذلك في التثبيت المركب، إِذ كان الاقتصاص من شأنه أَن يؤتى به بسيطا لا مركبا، أَعني أَنه استدلال بسيط موجز لا مركب ولا منتظم، سواء كان التثبيت مما يحتاج فيه إِلى التركيب والنظام أَو لا يحتاج
قال: وليس ينبغي أَن يستدل على الأُمور المعروفة. ولذلك كثير من الناس ليس يحتاج في مدحهم إِلى اقتصاص، وهم الناس الذين فضلهم بالجملة معروف، وإِنما المجهول منها عند السامع تفصيلها. لأَن الاقتصاص إِنما يثبت فيها شيئا هو معلوم. فأَمثال هؤلاءِ لا ينبغي أَن يشتغل فيهم بعمل الاقتصاص المجمل، قبل التثبيت المفصل، مثل أَنه إِذا أَراد إِنسان أَن يمدح أَبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فليس يحتاج في مدحهم أَن يبين أَنهم أَفاضل قبل أَن يشرع في تثبيت فضائلهم على التفصيل. اللهم إِلا أَن يكون الحاكم والسامع جاهلا بالممدوح، مثل الغرباء؛ فإِنه قد يحتاج مع أَمثال هؤلاءِ إِلى استعمال الاقتصاص
قال: ولأَن المدح إِنما هو كلام ينبئ عن عظم الفضيلة، فقد ينبغي أَن يستعمل المدح بالأُمور الخارجة التي ليست اختيارية على جهة التأكيد للتصديق الواقع من قبل الأَفعال. فإِن المدح إِنما يكون بالأَفعال. واستعمال الأَشياء التي من خارج على جهة التأكيد للمدح المتقدم بالأَفعال هو مثل قول القائل، بعد تثبيت الأَفعال الفاضلة: وبالواجب كان هذا، فإِنه يحق أَن يكون من الخيار خيارٌ، وإِن من نشأَ هذا المنشأ فحقيق أَن يكون بهذه الحال. والمدح، كما قلنا، إِنما يكون بالأَفعال. والمفعولات هي دلائل الأَفعال. وقد يمدح المرءُ وإِن لم يذكر له فعل وذلك إِذا تهيأَ وقوع التصديق بأَنه سعيدٌ أَو مغبوط أَو أَنه فاضل. وذلك أَن المدح بالأَفعال إِنما هو ليستدل به على الفضيلة. والمدح بالفضيلة ليستدل بها على السعادة والغبطة. فإِن نسبة الأَفعال إِلى الفضيلة كنسبة الفضيلة إِلى السعادة
قال: وقد تكون مواضع ما عامة للمديح وللمشورة جميعا، وإِنما تنقلب لأَحد النوعين بتغيير يسير يستعمل فيها، وذلك أَن التي ينبغي أَن تفعل هي التي يمدح بها إِذا فعلت. فمن عرف التي ينبغي أَن تفعل فقد عرف التي ينبغي أَن يمدح بها. وإِذا كان ذلك كذلك، كانت له قدرة على الفعلين جميعا، أَعني المدح والإِشارة. وذلك أَن الشيءَ الذي يأتي به على طريق الإِشارة والحث إِذا غيره تغييرا يسيرا وبدله صار مدحا. مثال ذلك أَن يقول قائل: إِنه لا ينبغي أَن يُتوهم أَن الأُمور العظام الشريفة هي الأُمور التي ينالها المرءُ بسعادة الجَد وجودة الاتفاق، بل الأُمور العظيمة هي التي تنال بالسعي وحسن الرأي. فإِنه إِذا قيل هكذا، كان كلاما مشوريا، فإِذا غير هذا وقيل: إِن فلانا إِنما نال الأُمور العظام بسعيه وجِده لا بجَده، كان مدحا. فالشيء الذي به يشار في هذه الأَشياء، به يكون المدح. وقد يكون الكلام مركبا من مدح ومشورة، وذلك إِذا انتقل الخطيب من أَحدهما إِلى الآخر، مثل أَن يقول: أَنت إِنما نلت العظائم بسعيك وجِدك، فلا تركن إِلى ما نلت منها باتفاق وجودة بخت
قال: وينبغي أَن يكون الاقتصاص خفيفا غير مطول، بل يكون بحيث يؤذن دفعة بالأَمر الذي قصد أَن يؤذن به ويدل عليه، وذلك إِما بإِغلاط من القول وإِما بلين وإِما بوسط بين ذلك، بحسب ما يليق بمقام مقام. وكذلك ينبغي أَلا يجعل صدر الكلام طويلا، ولا يذكر فيه التصديقات فإِنه إِن فعل ذلك لم يكن الكلام حسنا وكذلك يجب أَلا يكون أَيضا وجيزا قصيرا، ولكن يكون قصدا معتدلا. وذلك بأَن يذكر فيه الأَمر الذي جعل إِنباء عنه من ضرر أَو ظلم أَو غير ذلك مما يكون فيه القول، ثم يتوخى بعد ذلك أَن يكون الكلام على مثل تلك الأُمور التي فيها الكلام وبمقدارها لا مخالفا لها ولا أَعظم منها أَو أَصغر
قال: ومن النافع أَن يخلط المتكلم بالاقتصاص بعض الأَقاويل التي تدل على فضيلته ليكون كلامهُ أَقنع وأَن يستعمل من ذلك ما كان لذيذا وقوعه عند الحكام
قال: فأَما المجيب فينبغي أَن يقلل الاقتصاص إِن كانت الخصومة في أَنه لم يكن الأَمر الذي أَدعى المتكلم وقوعه، أَو في أَنه لم يكن ضارا، أَو في أَنه لم يكن ظلما، أَو في أَنه لم يكن على الصفة التي ذكر. وذلك أَن المجيب لا ينبغي أَن ينازع خصمه فيما أَقر به، إِن لم تكن له فيه منفعة. وذلك مثل أَن يقر أَنه فعل، ولكن لم يكن ذلك الفعل ظلما. وإِنما ينبغي للمجيب أَن لا ينكر الأَفعال التي إِذا لم يفعل، لم يجب العقاب أَو الغرم، أَو وجب الصفح
قال: وينبغي أَن يكون الاقتصاص أَهليا أَي مألوفا معروفا غير منكر، وذلك يكون بأَن يخلط به المتكلم الأَقاويل التي تحرك المرء إِلى الخلق الفاضل وتحرض على فعل الخير، وهي الأَقاويل الخلقية. وإِنما تستعمل الأَقاويل الخلقية في الأَشياءِ الإِرادية العملية، لا في الأَشياءِ النظرية. فإِن الأَخلاق هي مبادئ الأعمال التي هي نحو غاية ما، لا مبادئ الاعتقادات
قال: ولذلك لم تستعمل الأَقاويل الخلقية في الأَشياءِ التعاليمية إِلا ما كان يَستعملُ من ذلك أَصحابُ سقراط. والأَقاويل الخلقية هي التي تؤلَّف من لازمات الخلق، أَعني التي إِذا وجدت وجد ذلك الخلق. ولذلك قد يستعمل الخصم أَمثال هذه دلالة على خلق خصمه، كمثل ما يقول: إِنه عجول وغير متثبت، والدليل على ذلك أَنه يتكلم وهو يمشي، فإِن هذا يدل على الطيش وقلة الرزانة، وهو بخلاف قول القائل: أَما فلان فإِنه يتكلم عن رويَّة واختيار لأَنه إِنما يختار أَبداً الذي هو أَفضل إِما عند الرجل العاقل، وإِما عند الرجل الصالح؛ وذلك أَن العاقل يختار النافع، والصالح يختار الجميل
قال: وإِذا لم يقع التصديق بالشيء فينبغي أَن يؤتى بالسبب النوجب لذلك الشيء، مثل ما قال فلان في فلانة، فإِنه قال أَنها كانت تحب أَخاها أَكثر من حبها زوجَها وبنيها، لأَن هؤلاء يستعادون إِن فقدوا، والأَخ لا يستعاد إِن فقد
قال: ويجب إِن كان المتكلم استعمل الأَخذ بالوجوه وأَتى بالتصديق من التي من خارج أَن يُوبَّخ ويقال له: هذا من فعل من لا يفقه الكلام، ومن فعل من هو أَبهم بهيمة بالطبع
قال: وينبغي أَن يخلط المقتص باقتصاصه بعض الأَقاويل الانفعالية التي هي لازمة ومشاكلة، وهي التي تؤلف من الأُمور الموجودة فيهم أَو فيمن يتصل بهم. وذلك أَن هذه الأُمور هي عندهم معروفة مألوفة، يعني أَن هذه الأُمور هي التي توجب المحبة والرحمة لمن وجدت فيه، كما قيل: إِن هذا هو العقل نفسه، ومعنى زائد على العقل وكما قال فلان في فلانة: إِنها إِلى حيث ما رفعت يديها بلغت، يريد، فيما أَحسب، من إِمكان الأَشياءِ لها وتيسرها عليها
قال: وهذا يوجد كثيرا في شعر أُوميروش، كقوله في فلانة: إِن تلك العجوز حبست عندها الوجوه الحسان، يريد أَمثال هذه الأَقاويل الانفعالية التي توجب استغراباً للشيء وعجبا به. وهو موجود كثيرا في أَشعار العرب وخطبها، ومن أَحسن ما في هذا المعنى قول أَبي تمام
فلو صَوّرت نفسك لم تَزدها
على ما فيك من كرم الطباع
فإِن هذا القول انفعالي جدا. وقريب من هذا قول أَبي نواس
وليس على الله بمستنكـر
أَن يجمع العالم في واحد
قال: وقد يكون من الأَفعال ما يوجب الانفعال، وهي الأَفعال التي تصدر من أُناس هم بأَحوال توجب العطف عليهم مثل الذين يتكففون الدمع بأَيديهم من أَعينهم. فإِنهم إِذا أُبصروا بهذه الحال، أَشفق لهم وتعطف عليهم. ولذلك صار الخصم إِذا كان بهذه الحال يضلل الحاكم. وقد يدل على انتفاع الخصم بهذا الانفعال أَن هذه الحال قد تنفعه مع الجرم الذي هو به مقر فضلا مع ما هو له منكر
قال: وكثيرا ما يحتاج المتكلم أَن يتكلف عمل الاقتصاص في بدء كلامه، وربما لم يحتج إِلى ذلك
فأَما الكلام المشاوري فليس فيه اقتصاص أَلبتة، لأَنه ليس يكون اقتصاص فيما سيكون، وإِنما الاقتصاص فيما كان أَو هو كائن الآن. وإِنما تذكر الأُمور المتقدمة في المشورة على جهة البرهان، أَعني أَن يبين بها وجود الأُمور المستقبلة. ولذلك كلما كان المشير أَعرف بالأُمور السالفة الواقعة، كان أَحرى بحسن المشورة فيما هو كائن بأخَرة. فأَما المدح والذم فالأَمر فيه بخلاف هذا، أَعني أَنه تذكر فيه الأَشياء السالفة والحاضرة على جهة الاقتصاص. وليس في المشورة اقتصاص إِلا أَن يكون الخطيب ينتقل من المدح إِلى المشورة. ولكن إِذا كان الأَمر الذي يَعِدُ به مما لا يصدق بوقوعه، فينبغي له أَن يأتي بالعلة في الشيءِ الذي يَعِدُ بوقوعه، ثم بعد ذلك يتكلم في موجبات ذلك الواقع قال: وأَما التصديقات فينبغي أَن تكون أَقاويل تثبيتية. فإِن التثبيت أَمر خاص بالتصديقات في جميع أَنواع القول الخطبي. والأَشياء التي تكون فيها المنازعة في الخصومة، وهي التي يجب أَن يوقع بها التصديق، هي أَنحاء: أَحدها أَن الشيءَ كائن، وذلك إِذا مارى الخصم في كونه، أَعني أَن يجحده. ولذلك ما يجب على الشاكي أَن يأتي على كون ذلك الشيء بالبرهان، أَعني بالمثال. والنحو الثاني: هو في أَن الشيءَ ضار أَو ليس بضار، وذلك إِذا اعترف الخصم بأَنه قد كان ونازع في أَنه ضار. والثالث: أَنه عدل أَو ليس بعدل، وذلك إِذا اعترف بأَنه واقع وضار ونازع في كونه جوراً. والرابع: أَن يعترف الخصم أَنه ضار وغير عدل ولكن يدعي أَن خصمه كان السبب فيه بما تقدم من جوره عليه، مثل مَنْ يقر أَنه أَغضب إِنسانا، لكنه يزعم أَنه إِنما فعل ذلك لغضب متقدم كان منه، ففعل ذلك لينتصف منه. وهذا كأَنه راجع إِلى دعوى العدل. وإِذا اعترف الخصم بأَنه ضرر، ولكن خصمه كان السبب فيه، فبين أَن الخصومة حينئذ إِنما تكون في أَن خصمه كان السبب أَو لم يكن. وقد تكون الخصومة في هل يطلق لمن جير عليه أَن يجر بقدر ما جير عليه دون أَن يرفع ذلك إِلى الحاكم، كما يوجد الاختلاف في ذلك عند الفقهاء في ملتنا
قال: والخصومة في مثل هذا هي نافعة للشاكي، ضارة للمجيب، أَعني إِذا اعترف المجيب أَنه جار وادعى أَن السبب فيه خصمه. وأَما في تلك الأخر، وبخاصة في أَن الأَمر لم يكن، فهي للمجيب أَنفع منها للشاكي
قال: وأَما المنافرية فقد ينتفع فيها كثيرا باستعمال الشبيه والقول المثالي، أَعني في تبيين وجود تلك الأَفعال. وأَما في تلك الأَفعال جميلة أَو نافعة، فإِن الاستدلال على ذلك يكون من الأُمور أَنفسها، وقد يستدل في الأَقل على ذلك بالتمثيل، وهو الذي يعرفه أَرسطو بالبرهان في هذه الصناعة، وإِنما يحتاج في الأَكثر إِلى استعمال المثال إِذا كانت الأُمور غير مصدق بوجودها أَو كان هنالك علة تمنع التصديق بوجودها
قال: وأَما القول المشاجري فالذي يستعمل فيه التثبيت إِنما يبين إِما أَن الأَمر لا يكون، وإِما أَنه سيكون، وإِما أَنه إِن كان، فليس عدلا أَو ليس مما ينتفع به، أَو ليس على هذه الصفة ينبغي أَن يكون
قال: وقد ينبغي أَن يتفقد كذب المتكلم في المشوريات واستعماله الأُمور التي هي خارجة عن الأَمر أَكثر منها في سائر الأَنواع
قال: والعلامات وإِن كانت كاذبة بالجزء، كما قيل، فقد يستعملها هذا الجزءُ من الخطابة كما تستعملها سائر الأَجزاءِ. والمثالات أَخص بالمشاورة وأَولى بها. وأَما الضمائر فهي أَخص بالخصومة، لأَن الإِشارة إِنما تكون بما هو آت. ولذلك يجب أَن يؤتى بالبرهان عليه مما قد كان، وهو المثال. وأَما الخصومة فإِنما تكون في أَن الشيءَ موجود أَو غير موجود، ولذلك يكون المثبت فيها من الأَشياءِ الضرورية التي تلزم ذلك الشيءَ، لأَن الذي قد كان، لازمه ضروري الوجود، أَي موجود بالفعل، لا ممكن الوجود. وأًَما الأُمور المستقبلة فلازمها مستقبل الوجود، فلذلك كانت المثالات أَخص بها من الضمائر
قال: وليس ينبغي أَن يؤتى بمقدمات الضمائر على النسق الصناعي، بل ينبغي أَن يخلط بعضها ببعض، وإِلا أَضر بعضها بعضا. فأَما أَن يؤتى بها على الترتيب الصناعي وهو الترتيب الذي يظن أَنه قياسي، أَعني أَكثر من غيره، فليس ينبغي أَن يفعل ذلك في جميع الضمائر كما كان يفعله أُناس من المتفلسفين
قال: وإِذا أَردت أَن تعمل قولا انفعاليا، فلا تعملن منه ضميراً تصديقياً
فإِنك إِن فعلت ذلك، إِما أَن ترفع الانفعال الذي قصدت فعله، وإِما أَن يكون الضمير باطلا، لأَنك تصدم بعضها ببعض. وإِذا اجتمعا معا، فإِما أَن يفسد أَحدهما الآخر، وإِما أَن يوهنه
وكذلك أَيضا إِذا أَثبت بالكلام الخلقي، فلا ينبغي أَن يأتي بالضمير والتثبيت معه، لأَنه ليس التثبيت مما يفعل في السامع اختيار الشيء كما تفعله الأَقاويل الخلقية
ولكن ينبغي أَن يستعمل: أَما في الأَقاويل الخلقية فالأَقاويل الرأْيية، وأَما عند الاقتصاص فالأَقاويل التصديقية. فمثال الأَقاويل الخلقية قول القائل: إِنك عارف بهؤلاءِ فلا ينبغي أَن تصدقهم. ومثال الانفعالية قول القائل: إِن هؤلاء مظلومون فلا ينبغي أَن تضجر بهم. وأَما التصديقات فإِنما تكون في أَن هذا عدل أَو نافع
قال: والإِشارة في الأَكثر أَصعبُ من الخصومة، من أَجل أَن المشورة تكون في المستقبل والخصومة في الماضي. وما كان في الماضي أَعرف مما يكون في المستقبل، ولذلك كان التكهن في الماضي أَسهل منه في المستقبل، كما قال فلان في فلان أَنه كان يتكهن في الماضي ولم يكن يتكهن في المستقبل، يريد فيما أَحسب الغض منه
قال: والقول المثالي هو من الأُمور الظاهرة الحكم جدا ويسهل به وجدان البرهان على الشيءِ من قبله والتصديق به، وليس فيه محاورة كثيرة خارجة عن الشيءِ، كالذي يكون نحو الخصم من تخسيسه، أَو نحو نفسه من تفضيله، أَو في تصيير الحاكم إِلى الانفعال. اللهم إِلا أَن يروغ المتكلم به أَو يحيد عن الطريق، يريد لأَن هذه العلة كان أَخص بالمشورة
قال: وينبغي للمتشكك في المقدمات المأخوذة من السنة أَن يفعل فيها ما كان يفعله سقراط مع الخطباء من أَهل أَثينية، فإِنه كان يذم لهم تلك المقدمات ذما يسيراً، يريد، فيما أَحسب، بالتأويل لها. فإِن التأويل ذم ما للقول
قال: وأَما المنافريات فقد ينبغي أَن يستعمل فيها مدح الكلام التثبيتي، مثل ما كان يفعله سقراط في أَقاويله المدحية. فإِنه كان يدخل في أَثنائها مدح الكلام. وذلك مثل قول القائل: إِنه مَن مدَح فلانا فليس يعوزه مقال ولا تبقى له مقال. وإِذا كان هذا في مدح الإِنسان، فكيف في مدح الإِله
والكلام التثبيتي إِذا استعمل فيه المدح كان تثبيتا وخلقيا معا، وإِن لم يكن هنالك قول خلقي، وذلك مثل قول القائل: بعد أَن يأتي بالتثبيت: إِن الكلام المحقق الصحيح لا يعقله إِلا ذوو الفضل والصلاح
قال: والموبخات فهي أَنجح من المثبتات، يعني بالموبخات، التي تكون على طريق الخلف من المقدمات التي يعترف بها الخصم، وبالمثبتات الضمائر التي يأتي بها المتكلم في إِبطال قول الخصم من تلقائه
قال: وإِنما كانت الموبخات أَنجح من الضمائر لأَنه معلوم أَن الموبخات تفضل غيرها من الأَقوال في الشيء الذي به الأَقوال قياسية، أَعني أَنها قياسية أَكثر من غيرها، إِلا أَنها إِنما تأتلف من المقدمات المتضادة. والمتضادة إِذا قرن بعضها ببعض كان أَحرى أَن يظهر الكذب الذي فيها
قال: والكلام الذي يوجهه نحو الخصوم ليس يكون من نوع آخر سوى نوع الأَقاويل التصديقية فمنها ما تكون المقاومة فيه بحسب قول الخصم، وهي المقاييس التي تأْتلف من المقدمات المتقابلة أَو التي قوتها قوة المتقابلة، وتسوق إِلى التوبيخ. ومنها ما تكون من الأَمر نفسه، وهي المقاييس المستقيمة
قال: وقد ينبغي في المشورة والخصومة معا إِذا ابتدأَ المتكلم بالكلام أَن يذكر أَولاً التصديقات التي تثبت قوله ثم يقصد بعد ذلك لإِبطال المخالفات لقوله. هذا إِذا كانت المخالفات له يسيرة أَو قليلة الإِقناع، وأَما إِن كانت كثيرة أَو قوية الإِقناع، فإِن العمل كله هو في أَن يتقدم فينقض تلك الأَقاويل. فإِذا أَوهم بطلانها، أَتى بعد ذلك بالتثبيتات التي تخص قوله، وبالجملة: فينبغي للمتكلم الذي يريد أَن يتكلم بضد كلام قد تكلم به غيره أَن يوطئ لنفسه ويطرق لكلامه، ولا سيما إِذا كان الكلام الذي تكلم به الغير كلاما منجحا، أَي مقنعا. وذلك يكون بوجوه، مثل أَن يقول الخصم: إِنك معنى بالكلام ذو قدرة عليه. وإِنك تثبت كل ما تريد أَن تثبته، وتقنع في كل شيء أَنه واجب وأَنه عظيم وأَنه نافع ليعتقد في قولك أَنه صحيح ومحقق، وإِن لم يكن صحيحا عند الله ولا عند الحق نفسه. وربما استعمل في هذا ذم الكلام وذم المتكلم، مثل أَن يقول له: إِن كلامك محك وباطل وكلام رجل لا تورع عنده. وكأَن هذا الموضع الذي ذكره هو راجع إِلى ذم كلام الخصم إِما من جهة الباطن وإِما من جهة الظاهر. وذم الخصم نفسه أَو كلامه هو مقابل مدح المتكلم نفسه وكلامه. وإِنما تذكر هذه الأَشياء هاهنا من جهة الترتيب؛ وإِلا فقد تقدم الكلام فيها
قال: وقد ينبغي أَن تغير الضمائر إِلى الأَقاويل الخلقية أَحيانا مثل أَن يقول الخطيب إِذا أَشار بالصلح والهدنة: لأَنه ينبغي للعقلاءِ أَن يصيروا إِلى الصلح والهدنة. وبالجملة فيجب على الخطيب أَن يتكلف من الضمائر أَقوى ما يمكن أَن يوجد في ذلك الشيء الذي يتكلم فيه. فإِنه مهما كانت الضمائر التي يأتي بها الخطيب أَنجح فهو أَحرى أَن يقبل قوله وأَن يظهر على خصومه، مثل أَن تكون الضمائر التي يأتي بها في قبول الصلح أَقوى من الضمائر التي يأتي بها خصمه في دفع الصلح والإِشارة بالحرب
قال: فأَما السؤال فإِنما ينبغي أَن يستعمل في هذه الصناعة أَكثر من ذلك في مواضع: أَحدها: إِذا علم السائل أَن المجيب متى أَجاب بنعم أَو لا لزمه شيء واحد بعينه وهو الذي قصد المتكلم إِلزامه، مثل أَن يُسأَل أَلست قد أُخِذْتَ بقرب القتيل وبيدك سيف? فإِن قال: نعم، قيل: أَنت قتلته؛ وإِن قال: لا، قيل: فأَنت قتلته، فلذلك فررت
والموضع الثاني: حيث يعلم إِنه إِن لم يجب بالشيء الذي سأَله فقد قال شنيعا، مثل قول القائل: أَلست تعلم أَن الإِتاوة جور. فإِنه إِن قال: لا، كان شنيعا؛ وإِن قال: نعم، قيل له: وأَنت تأخذ الإِتاوة، فأَنت جائر والموضع الثالث أَن تكون المقدمة التي يسأَله عنها ظاهرة الصدق، ولا يكون ما يلزم عنها ظاهرا عند المجيب. فإِنه في مثل هذا الموضع يجب على السائل أَن يقتصر على مقدمة واحدة فقط، ولا يسأَل عن المقدمة الثانية. مثل أَن يَسأَل سائل رجلا من النصارى: أَليس الآباء و الأَبناء من جنسٍ واحد? فإِذا قال المجيب: نعم، قال: فعيسى إِذن ليس ابنا لله. فإِن هذه المقدمة يمكن أَن تخفي لظهورها، وبَعد لازمها، وهي خافية في الأَكثر أَعني في بادئ الرأي، على المجيب في هذا السؤال
والموضع الرابع: حيث يعلم السائل أَنه إِن أَجاب بضد ما سأَله قدر على إِلزامه التشنيع. والفرق بين هذا وبين الثاني: أَن الشنيع هنالك كان ضد ما سأَله عنه، وهنا إِنما أَلزمه السائل الشنيع بقياس
والموضع الخامس: إِذا كان الأَمر عند السؤال يضطره أَن يجيب بالمتناقضات معا فإِنه يلزمه التوبيخ الذي يفعله السوفسطائيون. مثل أَن يلزمه بالسؤال أَن يكون مجيبا في الشيء بنعم وبلا. فإِنه يشغب عليه حينئذ كما يفعل السوفسطائيون
والموضع السادس: أَن يسأَل سؤالا يتضمن معاني كثيرة ويتشغب الجواب فيه على المجيب. فإِنه إِن أَجاب في ذلك بالمعنى الذي قصده السائل لزمه الأَمر. وإِن جعل يفصل تلك المعاني واحدا واحدا ويجيب فيها بجواب جواب، رأَى السامعون من العمة لضعفهم أَنه مريد وأَنه لذلك قد اضطرب جوابه، إِذا كانوا يرون أَن الصادق إِنما يجيب إِذا سأَل بجواب واحد لا بأَجوبة كثيرة، لأَن ذلك اضطراب وتشويش في الجواب
قال: وأَما المجيب فقد ينبغي له في هذه الصناعة أَن ينكر إِنتاج الضمائر، إِذا لم يقدر على إِنكار المقدمات التي سئل عنها. وإِذا أَمكنه الإِنكار، فلا ينكر باللفظ المحتمل الذي يكون أَعم من ذلك الشيء الذي فيه المراء ولا أَخص. وينبغي له أَن يتقدم فيعلم المقدمات التي تفعل القياس على الشيء الذي يروم خصمه أَن يثبته عليه. وذلك مما يسهل علمه من الأَشياءِ التي قيلت في الثانية من طوبيقى. فإِن تلك الأَشياء إِما كلها وإِما بعضها هي مما يصلح في هذا الموضع وينتفع بها وإِن تم القياس عليه فينبغي له أَن يذكر أَن علة النتيجة هي غير العلة التي ذكرها الخصم، مثل أَنه إِذا أَنتج عليه أَنه أَخذ المال فيقول: نعم أَخذته لمكان الحفظ له، لا لمكان الغصب
قال: والسائل فقد ينبغي أَلا يَسأَل عن المقدمات البعيدة ولا عن القريبة من النتيجة نفسها إِلا أَن تكون ظاهرة جدا، بل ينبغي أَن يسأَل عن المقدمات التي هي من النتيجة بحال وسط في القرب والبعد
قال: ولأَن الأَقاويل التي تستعمل الهزء والسخرية لها غناء في المنازعات، فقد ينبغي أَن تدخل في المخاطبات التي فيها النزاع. ولذلك قال فلان: إِنه ينبغي أَن يفسد الجِد بضده أَي الهزل، ويفسد الهزل بضده أَي بالجد. وذلك صواب من قوله. وقد قيل في كتاب الشعر كم أَنواع الهزل. ومن أَنواع الهزل ما يليق بالكريم، وهو الهزل الذي لا يكمن فيه صاحبه على أَمر باطن وتعريض قبيح بل يكون ما يتكلم فيه بالهزل هو نفس الشيء الذي قصده، لا أَنه عرّض بذلك عن أَمر قبيح. ولذلك قيل: إِن المزَّاح يواجهك بالمزاح ويبدي لك ما في نفسه، وإِما المعرّض فهو الذي يخادعك ويوهمك أَنه يتكلم في شيء وهو يذهب في الهزل إِلى شيء آخر قبيح. فالمزَّاح أَشبه بالكريم لأَنه يصدق عن ذات نفسه، والمعرّض أَشبه باللئيم لأَنه يستعمل الخب والحقد
قال: وبالجملة فالأَشياء التي منها يتقوم الكلام الخطبي ويتركب عنها هي أَربعة أَشياء: أَحدها أَن يثبت عند السامعين من نفسه الصحة ومن خصمه التهمة. والثاني تعظيم الشيء المتكلم فيه وتصغيره.والثالث الأَقاويل الانفعالية والخلقية. والرابع: الأَقاويل الموجهة نحو الشيء المتكلم فيه. وهذه الأَشياء كلها مشتركة لجميع أَجزاء الخطابة، أَعني الأَجزاء الثلاثة
قال: ونحن فقد قلنا في المواضع التي منها تعمل هذه الأَشياء كلها. وبالجملة فقد وفينا بجميع المعاني التي وعدنا بذكرها في أَول هذا الكتاب. وكان ذكرنا لهذه الأَشياء أَما في أَول الأَمر فلكي يكون ما يتكلم فيه معلوما غير مجهول، كالحال في فعل الذين يريدون أَن يحسنوا التعليم، أَعني أَن يحضروا أَولاً الأَغراض والمعاني التي يريدون أَن يتكلموا فيها، ثم يتكلمون فيها. وأَما ذكرنا إِياها هاهنا وبأخرة فلكي يعلم أَنا قد وفينا بما كنا وعدنا في ذلك. وهذا هو مبلغ الخاتمة التي تخص المتكلم أَعني أَنه يعلم بأَنه قد وفى بما ذكر. وأَما الذي يخص السامعين فهو التذكير
قال: والمثالات فينبغي أَن تكون بالجملة بحيث يفهم منها الشيء الذي أخذ المثال بدلا منه، ويفهم من ضدها ضده. وذلك إِنما يكون متى كان هذان الأَمران في المثال أَعرف منهما في الشيء الذي استعمل المثال بدله، أَعني أَن يكون أَعرف من الممثَّل، وضده أَعرف من ضد الممثَّل. فإِنه متى لم يكن المثال هكذا، كان إِما ليس يثبت شيئا وإِما أَن يثبت به ما قد ثبت، وذلك إِما بمثال آخر، وإِما لأَنه معروف بالطبع. وكذلك الحال في معرفة ضد الشيء، أَعني أَن منها ما يكون معروفا بنفسه، ومنها ما يكون معروفا بمثال
قال: وأَما خواتم الخطب فينبغي أَن تكون منفصلة عن الخطبة غير مرتبطة بها ولا متصلة، بمنزلة الصدر ولكن تكون موجهة نحو الكلام الذي سلف، مثل قول القائل في الخطب المشاورية: هذا قولي فاسمعوا، والحكم إِليكم فاحكموا