ترجمة إبن عاشر من كتاب السلسل العذب والمنهل الأحلى لأبي بكر الحضرمي
4 Novembre 2008
Rédigé par Abdelkader HADOUCH عبد القادر حادوش et publié depuis
Overblog
الشيخ الجامع المبارك أبو العباس أحمد بن محمد بن عمر بن عاشر السلاوي. كان رضي الله
عنه للخير سباقا، لا يزيده اجتهاده في العبادة الا اشتياقا، شديد المراقبة والخوف، عالى الهمة والشرف، جليل المقام، ذاكرا لعلم الحلال والحرام، متمكنا في مقام الورع لا يشق فيه غباره، ولا تجهل
آثاره
أصله من شمنية وبها خلق ونشأ إلى أن حفظ القرآن وقرأ العلم واجتهد في الطاعات
والعبادات، وانقطع لسبيل الأعمال الصالحات، ثم انتقل منها إلى الجزيرة الخضراء وأقام بها زمانا منشغلا بتعليم كتاب الله تعالى، فلقي بها الأكابر من أهل المقامات، فأنس بهم ولاذ بمرافقتهم، منهم الشيخ
المبارك صاحب الحالات والكرامات، أبو سرحان مسعود الأبله، وكان مأخوذا عن نفسه، مسلوبا عن حسه. مصروفا بمحبة الله إلى ما يحمده بعد الحلول في رسمه، سمعت الشيخ سيدي أبا العباس يقول: كان الشيخ أبو
سرحان عظيم الشأن، وذلك أنه كان يأتي إلي بالمسجد الذي كنت آوي إليه، فيؤنسني ويأنس إلي، فأتى إلي في بعض مجيئاته وأنا إذ ذاك مؤثر للخلوة بنفسي، في بيت في صومعة المسجد، فجلس إلي وأقبل يحادثني،
فبينما نحن كذلك إذ حضرت الصلاة، فأردت الخروج لأصلي مع الناس، وكانت عندي أمانة لرجل مودعة في آنية في زاوية البيت، وكان يعن لأبي سرحان أن يصلي وحده منفردا،فقلت في نفسي إن انصرفت وتركت هذا الرجل
هنا -وإن غلب عليه الصلاح- فاستئماني له يعارضني فيه مول الحكم، وتردد الخاطر في نفسي، قال: نظر إلي شزرا، وقال لي: سر لحاجتك ولا تخف على ما في الآنية الفلانية، فعلمت صدق الرجل لاطلاعه، ودفعت
الخاطر عن نفسي ومضيت لصلاتي، قال الشيخ: ولما أن قرب وقت حصار النصارى للجزيرة أتى إلي وقال لي: يا أخي إن هذه المدينة ستنزل عن قريب، فانصرف عنها قبل حلول البلاء بها، ففعلت تصديقا له واعتمادا على
نور بصيرته، فكان الأمر كما قال، ونزلت بعد ذلك متصلا بخروجه عنها
رحل وحج ثم آب للمغرب، فقدم فاسا المحروسة، وأقام بها مدة، ثم رحل إلى مكناسة
واستوطنها مدة، وبها إحدى أختيه إلى الآن والثانية بشمنية
وقد كان مولانا الخليفة أبو عنان رضوان الله عليه، أجرى على هذه التي بمكناسة جراية
كانت تتعيش منها طول حياته، نفع الله بها، ثم انتقل إلى سلا فنزل من رباط الفتح بزاوية الشيخ الكبير الشان، صاحب الكرامات والحالات الحسان، أبي عبد الله اليابوري، وهو معروف القدر معلوم الحال، أحد
شيوخ التربية والمنتخبين الأعلام، فأقام هنالك دهرا طويلا على بر واستحسان من الشيخ لحاله، كان يسميه فيما سمعت: بالشاب الأسعد الصالح، وكان يأمر أهل الفضل ممن يتلمس بركته، بإيناس سيدي أبا العباس
والنظر في مصالحه، وأسكنه خلوة بالزاوية المذكورة، وتسبب له في إقراء الأولاد القرآن، فإن سيدي أبا العباس كان يختار ألا يأكل إلا من كسبه أو ما علم وجه كسبه، ثم انتقل للعدوة الأخرى من سلا فنزل منها
بزاوية الشيخ أبي زكرياء، الكائنة بقرب الجامع الأعظم وبدار المقدم عليها إذ ذاك، الشيخ أبي عبد الله محمد بن عيسى، تلميذ الشيخ أبي زكرياء المذكور، كل ذلك بعد وفاة الشيخ اليابوري، وكان اكتسابه في
هذه المدة، من نسخه كتاب العمدة، في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معجبا بهذا التأليف مؤثرا لحفظه، وفهمه، كثيرا ما يندب إخوانه لذلك، وكان يقوم على حفظه وربما أقرأه تفهما لكثير من
أصحابه، ينسخ فيه ثلاث نسخ في السنة غالبا، ويسفرها بيده وربما صنع لها أغشية من جلد بيده، ويبيعها لمن يعرف طيب كسبه بدينار من الذهب العين للنسخة، ولا يزيد على ذلك، وربما نقص منه اليسير، ومن
ذلك توفر له ما اشترى به داره التي توفي بها في درب فرات من الجهة بإزاء باب معلقة من سلا، وفي هذه الدار شهر أمره وانتشر في الناس ذكره، واجتمع إليه الأصحاب وانضاف إليه المريدون وانحاش لجنابه
التائبون، على كراهته في الشهرة وإيثار للعزلة، وخصوصا في هذا الوقت، وقد كان قبل يزور إخوانه الصالحين، ويأنس برؤيتهم ومحادثتهم وملاقاتهم، فصار بعد سكناه بهذه الدار قليلا ما يظهر، وناء ما
يبدو للعين ويبصر، وقل ما تأتى لقاؤه إلا لمن لا بد منه من المجاورين والمنقطعين لظله
وأول من صحبه هنالك وأخذ عنه وتهدى بهديه: الشاب المبارك أبو عبد الله محمد الزهري،
وكان أخص الناس به، وبسببه ائتلف أكثر من ائتلف معه على ما يأتي بعد إن شاء الله عند ذكر الزهري رحمه الله. وبهذه الدار لقيه المؤلف سنة ثلاث وستين سبعمائة في أول شهر رجب الفرد، في جماعة من
الزائرين له والمتبركين به الملتمسين منه الإفادة، وفدوا عليه من أهل فاس وأهل مكناسة، فرحب بهم ودعا لهم بالخير، وحض على ما فيه رضي الله من التقوى والوقوف مع أمر الله ونهيه، واتباع سنة
الله ونبيه، وقراءة العلم والمبادرة إلى العمل بمقتضاه. وكثيرا ما كان يردد: العلم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر، وأخذ يرغب في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وينهى عن الاستخفاف بحقوق الله تعالى،
والتهاون بالمكاسب واسترسال الغيبة، وأكل الناس، وكان ذلك من أهم ما يوصي به ويتحفظ منه، والله أسأل الهداية لما ندب إليه بمنه وفضله
وسمعت في مجالس التردد إليه في تلك الوجهة من فضل المجاهدة من فوائد اكتساب الحلال ما ينور البصائر، وقال: الحلال أعظم شعب الجهاد في الوقت، وكان من أعلم أهل زمانه في الحلال والحرام، وبه نجح في
المغرب الفقه في هذا الباب من العلم وأحيا رسمه، وقد كانت اندرست أكثر طرقه ومعالمه، وانطمست أغلب سبله ومسالكه، فكان يأتي من علمه بالعجائب، ويظهر على عمله من تدقيق الأنظار فيه فنون الغرائب،
ويأمر باستنساخ كتبه وقراءتها وتصحيحها، حتى فشت في الناس، وتعيش من نسخها جماعة ممن انضاف إليه، لم يكن كسبهم إلا من نسخها ونسخ أمثالها من كتب العلم، وخصوصا كتب الفقه والتصوف
فمن كتب التصوف كتاب النصائح للمحاسبي، وكان كثير المطالعة لهذا الباب حتى كان يجري منه مجرى الدم، وعلى قراءته كان يحض من يستنصحه، ولقد حض عليه مرة مولانا الخليفة واستنصاحه إياه، وكان ينظر أيضا
كثيرا في رعاية المحاسبي، وفي قوت القلوب لأبي طالب المكي، وفي الإحياء للغزالي، وحده ومعه أصحابه أحيانا على حذر منه وتوق وشدة خوف واحتياط، أعني في وقت قراءتها مع الأصحاب وخروجا منه عن عهدة
الالتزام، فكان أبدا تعليمه نصيحة وإرشاد، تعرف القلوب خلوصه فتتلقاه بالقبول المتمكن، يزكيه الله فيها. وكان مع سيادته وعظمه في صدورهم لا يرى لنفسه عليهم شفوفا ولا مزية، بل يعظمهم ويجلس معهم حيث
أمكنه الجلوس، ويكنيهم ولا يدعوهم بأسمائهم، وكثيرا ما يردد في كلامه: يا صاحبي إنما أنا واحد منكم ولست بشيخكم ولا معلمكم، عليكم بكتب العلماء وما صنفه الجلة الفضلاء، ولا يقتد أحد بي فيما لا يجد
له أصلا في كتب العلماء، ولست بقدوة ولا إمام متبع، وإنما أنا رجل من المسلمين وكان كثيرا ما يجري على لسانه من الوصايا، قوله: الخير في ترك الشبهات، والورع عن المنهيات، ورد التباعات، وترك
الغيبة والنميمة، وبذل النصيحة، والاجتهاد في اتباع السنة، فتلك غاية النعمة. وأول ما كان يحض عليه التائبين، رد التباعات، وقضاء الصلوات، والورع في المعاملات، والأخذ بالأوسط من الحالات، والتحرز
عن بنيات الطرق، والشذوذ من العبادات
وكان رضي الله عنه أبدا في زيادة من أمره ورفعة في حاله، فكان من حالته أولا في حين رؤية المؤلف له واستفادته منه، يجلس مع أصحابه لقراءة كتب التصوف غالب الأيام، في دار بمقربة داره، حبسها لذلك بعض
أصحابه، وكان المتولي للقراءة والإقراء غيره من أصحابه، لكن ربما تمر بهم المسألة المشكلة فيفزعون في حلها إليه، فيتكلم بما عنده على حالته من الحذر والتحرز إلى كف نفسه عن حضور ذلك المعهد، واقتصر
على داره إلا في بعض الأحيان القليلة يجتمع معهم في خارج البلد، في رقعة من رباط كان اشتراه بجهة باب سبتة من سلا، أو بموضع داخل السور يعرف بوراء الجامع فيه الجبانات، وكان كثيرا ما يجلس في هذا
الموضع متوجها للقبلة، وثم دفن بعد وفاته رحمة الله عليه. وربما كانت له وقفة بعد صلاة الجمعة عند باب داره، يضطره إليها من يترقب زيارته بها في أيام الجمعة، فإن كان اقتصر على الصلوات في داره إلا
الجمعة، فكان المتبركون يغتنمون ذلك الموقف المبارك ويدعون تلك الساعة بساعة الرحمة، وفيما كان يظهر عليه شيء من البسط، فإنه كان الغالب عليه القبض، وكانت تعلوه هيبة فلا يقدر أحد أن يكلمه ما لم
يبتدئه ويؤنسه هو، وكان إذا توجه لصلاة الجمعة كأنما هو متوجه إلى المحشر والموقف، فكان يتنظف لذلك ويتأهب ما أمكنه، وكانت له جبة صوف خضراء وحزام صوف معدان لذلك اليوم، وكان يلبس في سائر أيامه جبة
أخرى بالية قصيرة الأكمام قصرا كثيرا، وحزام صوف أكحل، وينتعل نعلا خشنا في أسفله مسامير، وكان في ملبسه ومكسبه وسائر أحواله في غاية التقشف والتقلل، مبتهلا في مناجاة ربه وعبادة خالقه.
وأخذ في الأهبة الغاية ينتظر القدوم عليه حتى إنه كان المتناول لما يضطر إليه في أمر معاشه من طحن وعجن وخبز وغير ذلك، وربما كا يرغب بعض خواص أصحابه أن يكفيه شيئا من ذلك، فأبى إلا اليسير في بعض
الأوقات، وكان يرى في ذلك قطع العلائق ويرغب في أجر المشقة، وكان وجه تكسبه إما من نسخه لكتاب العمدة، وإما من حرث كان يحرثه له رجل من أصحابه معلوم الكسب، يبذر له يسيرا من القمح فيرزقه الله
سبحانه مقدار قوته، نهايته تسعون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، يأخذ منه مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ربع صاع في كل يوم، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ويأمر بذلك، وينهى عن الوصال،
ويقول: بقيت أواصل ما شاء الله، وأقتات بورق الخبازي وحيوان من البحر يسمى السرنيق نحوا من سنتين، فأضر بي ذلك في أداء الفرائض، وكان يحذر من الخلوة المفرطة، ويقول: لا ينبغي أن يخلو إلا قوي، فإني
كنت في بعض خلواتي ليلة، فأتاني رجلان من الجن في أيديهما شمعتان موقودتان، فقالا لي: نريد خدمتك وأنسك، فأبيت ذلك خشية الفتنة
فهذه كانت حاله رضي الله عنه، وعلى هذا ظاهرا وقف أمره إلى أن لقي الله عز وجل، واستأثر به سبحانه في شهر رجب الفرد من سنة أربع وستين وسبعمائة، وكان من قصة وفاته ما حدثني به من حضر من أصحابه
-فإني في التاريخ بفاس- أن الشيخ رحمه الله اشتكى أربعة أيام فكانوا يبيتون عنده التماس بركته وخدمة له، قالوا: فلما كان في الليلة التي قبض فيها، جلسنا إليه على العادة نحادثه بمسائل من العلم
ونلاطفه بما تميل إليه نفسه المباركة من الخير، فتلقانا في تلك الليلة بالانشراح والبسط ولين الجانب، والإمتاع من حديثه والإقبال بالفائدة علينا، والإشارة إلى أسرار العلوم وكشف حقائقها وغوامض
أسرارها، بما علمنا أنه مما فتح الله على قلبه بما لم يطلع عليه إلا خواص أوليائه، فعجبنا منه غاية العجب، وفرحنا به وابتهجت نفوسنا، وانشرحت صدورنا، وما نرجو الله تعالى أن ينفعنا به، وكان ذلك
فتحا لم نعهده قط منه ولا نألفه، فسرحنا في جنة الأنس نتنعم به وبحديثه، ونتلذذ إلى أن مر من الليل جزء وافر، ثم التفت إلينا مسرعا فقال: يا أصحابنا، أطفئوا السراج، وانصرفوا راشدين، وخذوا مضاجعكم
إني إنشاء الله بخير والحمد لله تعالى، قالوا: فانصرفنا من فورنا امتثالا لأمره على كره منا لمفارقته، وصرنا إلى البيت الآخر من داره، فنام بعضنا وبقي بعض دائم اليقظة امتداد ساعة، وإذا برجل قد هب
بعد أن كان نائما وعليه أثر روع، فقال: أدركوا الشيخ، فإنه قبض رحمة الله عليه، قالوا: فقمنا مبادرون إليه، وأسرجنا السراج، ودخلنا عليه فوجدناه كما قال قد قبض، فعجبنا من ذلك وسألناه من أخبره،
فقال: رأيت رجلين عليهما أثر الصلاح، أحدهما خارج من عند الشيخ والآخر داخل من باب الدار، فقال الداخل للخارج: ما الخبر؟ فقال له: انبسط الشيخ بنفسه ومات، فأفقت كما رأيتم. فقلنا: إن الشيخ حضره
رجال الغيب، فجهز ودفن في صبيحة تلك الليلة، في الموضع المدعو بوراء الجامع، وقد كان دفن بمقبرة من ذلك الموضع، جملة من أصحابه، ممن كان مات قبله رحمة الله على جميعهم
أبو عبد الله
محمد بن أبي بكر الحضرمي، كتاب السلسل العذب والمنهل الأحلى، مجلة معهد المخطوطات العربية، المجلد العاشر، الجزء الأول، 1964، صفحة 39-45