Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Histoire du Maghreb تاريخ المغرب الكبير

بيان ذم الغنى ومدح الفقر من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي

اعلم أن الناس قد اختلفوا في تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر - وقد أوردنا ذلك في كتاب الفقر والزهد وكشفنا عن تحقيق الحق فيه - ولكنا في هذا الكتب ندل على أن الفقر أفضل وأعلى من الغني على الجملة من غير التفات إلى تفصيل من الأغنياء حيث احتج بأغنياء الصحابة وبكثرة مال عبد الرحمن بن عوف وشبه نفسه بهم والمحاسبي رحمه الله حبر الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه‏.‏

وقد قال بعد كلام له في الرد على علماء السوء‏:‏ بلغنا أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال‏:‏ يا علماء السوء تصومون وتصلون وتصدقون ولا تفعلون ما تؤمرون وتدرسون ما لا تعملون فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة بحق أقول لكم لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته بحق أقول لكم إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم أفسدتم آخرتكم فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة فأي الناس أخسر منكم لو تعلمون ويلكم حتام تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محل المتحيرين‏!‏ كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم مهلاً مهلاً‏!‏ ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة متعطلة‏!‏ يا عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم تدفعكم من خلفكم حتى تسلمكم إلى الملك الديان عراة فرادى فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم‏.‏

ثم قال الحارث رحمه الله‏:‏ إخواني فهؤلاء علماء السوء شياطين الإنس وفتنه على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة وأدلوا الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين وفي الآخرة هم الخاسرون أو يعفو الكريم بفضله‏.‏

وبعد‏:‏ فإني رأيت الهالك المؤثر للدنيا سروره ممزوج بالتنغيص فيتفجر عنه أنواع الهموم وفنون المعاصي وإلى البوار والتلف مصيره فرح الهالك برجائه فلم تبق له دنياه ولم يسلم له دينه ‏"‏ خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ‏"‏ فيا لها من مصيبة ما أفظعها ورزية ما أجلها ألا فراقبوا الله إخواني ولا يغرنكم الشيطان وأولياؤه من الآنسين بالحجج الداحضة عند الله فإنهم يتكالبون على الدنيا ثم يطلبون لأنفسهم المعاذير والحجج ويزعمون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لهم أموال فيتزين المغرورون بذكر الصحابة ليعذرهم الناس على جمع المال ولقد دهاهم الشيطان وما يشعرون‏.‏

ويحك أيها المفتون إن احتجاجك بمال عبد الرحمن بن عوف مكيدة من الشيطان ينطق بها على لسانك فتهلك‏!‏ لأنك متى زعمت أن أخيار الصحابة أرادوا المال للتكاثر والشرف والزينة فقد اغتبت السادة ونسبتهم إلى أمر عظيم ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد ازدريت محمداً والمرسلين ونسبتهم إلى قلة الرغبة والزهد في هذا الخير الذي رغبت فيه أنت وأصحابك من جمع المال ونسبتهم إلى الجهل إذ لم يجمعوا المال كما جمعت ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى من تركه فقد زعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينصح للأمة إذ نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير للأمة فقد غشهم بزعمك حين نهاهم عن جمع المال كذبت ورب السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏!‏ فلقد كان للأمة ناصحاً وعليهم مشفقاً وبهم رؤوفاً‏.‏

ومتى زعمت أن جمع المال أفضل فقد زعمت أن الله عز وجل لم ينظر لعباده حين نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير لهم أو زعمت أن الله تعالى لم يعلم أن الفضل في الجمع فلذلك نهاهم عنه وأنت عليم بما في المال من الخير والفضل لذلك رغبت في الاستكثار كأنك أعلم بموضع الخير والفضل من ربك تعالى الله عن جهلك أيها المفتون تدبر بعقلك ما دهاك به الشيطان حين زين لك الاحتجاج بمال الصحابة‏!‏ ويحك ما نفعك الاحتجاج بمال عبد الرحمن بن عوف وقد ود عبد الرحمن بن عوف في القيامة أنه لم يؤت من الدنيا إلا قوتاً وقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك‏!‏ فقال كعب‏:‏ سبحان الله‏!‏ وما تخافون على عبد الرحمن كسب طيباً وأنفق طيباً وترك طيبا‏!‏ فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضباً يريد كعباً فمر بعظم لحي بعير فأخذه بيده ثم انطق يريد كعباً فقيل لكعب‏.‏

إن أبا ذر يطلبك فخرج هارباً حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر وأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر فقال له أبو ذر‏:‏ هيه يا بن اليهودية‏!‏ تزعم أن لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف ولقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً نحو أحد وأنا معه فقال ‏"‏ يا أبا ذر ‏"‏ فقلت‏:‏ لبيك يا رسول الله فقال ‏"‏ الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله وقدامه وخلفه وقليل ما هم ‏"‏ ثم قال ‏"‏ يا أبا ذر ‏"‏ قلت‏:‏ نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال ‏"‏ ما يسرني أن لي مثل أحد أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وأترك منه قيراطين ‏"‏ قلت أو قنطارين يا رسول الله قال ‏"‏ بل قيراطان ‏"‏ ثم قال ‏"‏ يا أبا ذر أنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل فرسول الله يريد هذا وأنت تقول يا ابن اليهودية لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف كذبت وكذب من قال‏!‏ فلم يرد عليه خوفاً حتى خرج‏.‏

وبلغنا أن عبد الرحمن بن عوف قدمت عليه عير من اليمن فضجت المدينة ضجة واحدة فقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما هذا قيل عير قدمت لعبد الرحمن قالت‏:‏ صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك عبد الرحمن فسألها فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إني رأيت الجنة فرأيت فقراء المهاجرين والمسلمين يدخلون سعياً ولم أرد أحداً من الأغنياء يدخلها معهم إلا عبد الرحمن بن عوف يدخلها معهم حبوا فقال عبد الرحمن‏:‏ إن العير وما عليها في سبيل الله وإن إرقاءها أحراراً لعلي أدخلها معهم سعياً‏.‏

وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف ‏"‏ أما إنك أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي وما كدت أن تدخلها إلا حبواً‏.‏

ويحك أيها المفتون فما احتجاجك بالمال وهذا عبد الرحمن في فضله وتقواه وصنائعه المعروف وبذله الأموال في سبيل الله مع صبحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبشراه بالجنة أيضاً

يوقف في عرصات القيامة وأهوالها بسبب مال كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف وأنفق منه قصداً وأعطي في سبيل الله سمحاً منع من السعي إلى الجنة مع الفقراء المهاجرين وصار يحبو في آثارهم حبواً فما ظنك بأمثالها الغرقى في فتن الدنيا وبعد‏:‏ فالعجب كل العجب لك يا مفتون تمرغ في تخاليط الشبهات والسحت وتتكالب على أوساخ الناس وتتقلب في الشهوات والزينة والمباهاة وتتقلب في فتن الدنيا ثم تحتج بعبد الرحمن وتزعم أنك إن جمعت المال فقد جمعه الصحابة كأنك أشبهت السلف وفعلهم ويحك إن هذا من قياس إبليس ومن فتياه لأوليائه‏!‏ وسأصف لك أحوالك وأحوال السلف لتعرف فضائحك وفضل الصحابة‏.‏

ولعمري لقد كان لبعض الصحابة أموال أرادوها للتعفف والبذل في سبيل الله فكسبوا حلالاً وأكلوا طيباً وأنفقوا قصداً وقدموا فضلاً ولم يمنعوا منها حقاً ولم يبخلوا بها لكنهم جادوا لله بأكثرها وجاد بعضهم بجميعها وفي الشدة آثروا الله على أنفسهم كثيراً فبالله أكذلك أنت والله إنك لعبيد الشبه بالقوم‏.‏

وبعد‏:‏ فإن أخيار الصحابة كانوا للمسكنة محبين ومن خوف الفقر آمنين وبالله في أرزاقهم واثقين وبمقادير الله مسرورين وفي البلاء راضين وفي الرخاء شاكرين وفي الضراء صابرين وفي السراء حامدين وكانوا لله متواضعين وعن حب العلو والتكاثر ورعين‏.‏

لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم بالبلغه منها وزجوا الدنيا وصبروا على مكارهها وتجرعوا مرارتها وزهدوا في نعميها وزهرتها‏.‏

فبالله أكذلك أنت ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا وقالوا‏:‏ ذنب عجلت عقوبته من الله وإذا رأوا الفقر مقبلاً قالوا‏:‏ مرحباً بشعار الصالحين‏.‏

وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيباً حزيناً وإذا لم يكن عندهم شيء أصبح فرحاً مسروراً فقيل له‏:‏ إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا وإذا كان عندهم شيء فرحوا وأنت لست كذلك‏!‏ قال‏:‏ إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت إذ كان لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت إذ لم يكن لي بآل محمد أسوة‏.‏

وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا‏:‏ ما لنا وللدنيا وما يراد بها فكأنهم على جناح خوف وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا وقالوا‏:‏ الآن تعاهدنا ربنا‏.‏

فهذه أحوال السلف ونعتهم وفيهم من الفضل أكثر مما وصفنا‏.‏

فبالله أكذلك أنت إنك لبعيد الشبه بالقوم‏.‏

وسأصف لك أحوالك أيها المفتون ضداً لأحوالهم وذلك أنك تطغي عند الغنى وتبطر عند الرخاء وتمرح عند السراء وتغفل عن شكر ذي النعماء وتقنط عن الضراء وتسخط عند البلاء ولا ترضى بالقضاء‏.‏

نعم وتبغض الفقر وتأنف من المسكنة وذلك فخر المرسلين وأنت تأنف من فخرهم‏.‏

وأنت تدخر المال وتجمعه خوفاً من الفقر وذلك من سوء الظن بالله عز وجل وقلة اليقين بضمانه وكفى به إثماً وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها وشهواتها ولذاتها‏.‏

ولقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم فربت عليهم أجسامهم وبلغنا أن بعض أهل العلم قال‏:‏ ليجيء يوم القيامة قوم يطلبون حسنات لهم فيقال لهم ‏"‏ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ‏"‏ وأنت في غفلة قد حرمت نعيم الآخرة بسبب نعيم الدنيا فيا لها حسرة ومصيبة‏!‏ نعم وعساك تجمع المال للتكاثر والعلو والفخر والزينة في الدنيا وقد بلغنا أنه من طلب الدنيا للتكاثر أو للتفاخر لقي الله وهو عليه غضبان وأنت غير مكترث بما حل بك من غضب ربك حين أردت التكاثر والعلو نعم عساك المكث في الدنيا أحب إليك من النقلة إلى جوار الله فأنت تكره لقاء الله والله للقائك أكره وأنت في غفلة وعساك تأسف على ما فاتك من عرض الدنيا وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة شهر‏.‏

وقيل سنة‏.‏

‏"‏ وأنت تأسف على ما فاتك غير مكترث بقربك من عذاب الله‏.‏

نعم ولعلك تخرج من دينك أحياناً لتوفير دنياك وتفرح بإقبال الدنيا عليك وترتاح لذلك سروراً بها وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من أحب الدنيا وسر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه وبلغنا أن بعض أهل العلم قال إنك تحاسب على التحزن على ما فاتك من الدنيا وتحاسب بفرحك في الدنيا إذا قدرت عليها وأنت فرح بدنياك وقد سلبت الخوف من الله تعالى وعساك تعنى بأمور دنياك أضعاف ما تعنى بأمور آخرتك وعساك ترى مصيبتك في معاصيك أهون من مصيبتك في انتقاص دنياك ونعم وخوفك من ذهاب مالك أكثر من خوفك من الذنوب وعساك تبذل للناس ما جمعت من الأوساخ كلها للعلو والرفعة في الدنيا وعساك ترضى المخلوقين مساخطاً لله تعالى كيما تكرم وتعظم‏.‏

ويحك‏!‏ فكأن احتقار الله تعالى لك في القيامة أهون عليك من احتقار الناس إياك وعساك تخفى من المخلوقين مساويك ولا تكترث باطلاع الله عليك فيها فكأن الفضيحة عند الله أهون عليك من الفضيحة عند الناس فكأن العبيد أعلى عندك قدراً من الله تعالى الله عن جهلك‏!‏ فكيف تنطق عند ذوي الألباب وهذه المثالب فيك أف لك‏!‏ متلوثاً بالأقذار وتحت بمال الأبرار هيهات هيهات ما أبعدك عن السلف الأخيار والله لقد بلغني أنهم كانوا فيما أحل لهم أزهد منكم لكبائر المعاصي فليت صومك على مثال إفطارهم وليت اجتهادك في العبادة مثل فتورهم ونومهم وليت جميع حسناتك مثل واحدة من سيئاتهم فمن لم يكن كذلك فليس معهم في الدنيا ولا معهم في الآخرة فسبحان الله‏!‏ كم بين الفريقين من التفاوت فريق خيار الصحابة في العلو عند الله وفريق أمثالكم في السفالة أو يعفو الله الكريم بفضله‏.‏

وبعد‏:‏ فإنك إن زعمت أنك متأس بالصحابة بجمع المال للتعفف والبذل في سبيل الله فتدبر أمرك ويحك هل تجد من الحلال في دهرك كما وجدوا في دهرهم أو تحسب أنك محتاط في طلب الحلال كما احتاطوا لقد بلغني أن بعض الصحابة قال‏:‏ كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام أفتطمع من نفسك في مثل هذا الاحتياط لا ورب الكعبة ما أحسبك كذلك‏!‏ ويحك‏!‏ كن على يقين أن جمع المال لأعمال البر مكر من الشيطان ليوقعك بسبب البر في اكتساب الشبهات الممزوجة بالسحت والحرام وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من اجترأ على الشبهات أوشك أن يقع في الحرام أيها المغرور أما علمت أن خوفك من

اقتحام الشبهات أعلى وأفضل وأعظم لقدرك عند الله من اكتساب الشبهات وبذلها في سبيل الله وسبيل البر بلغنا ذلك عن بعض أهل العلم قال‏:‏ لأن تدع درهماً واحداً مخافة أن لا يكون حلالاً خير لك من أن تتصدق بألف دينار من شبهة لا تدري أيحل لك أم لا فإن زعمت أنك أتقى وأورع من أن تتلبس بالشبهات وإنما تجمع المال بزعمك من الحلال للبذل في سبيل الله‏!‏ ويحك‏!‏ إن كنت كما زعمت بالغاً في الورع فلا تتعرض للحاسب فإن خيار الصحابة خافوا المسألة وبلغنا أن بعض الصحابة قال‏:‏ ما سرني أن أكتسب كل يوم ألف دينار من حلال وأنفقها في طاعة الله ولم يشغلني الكسب عن صلاة الجمعة قالوا‏:‏ ولم ذاك رحمك الله قال‏:‏ لأني غني عن مقام يوم القيامة فيقول عبدي من أين اكتسبت وفي أي شيء أنفقت فهؤلاء المتقون كانوا في جدة الإسلام والحلال موجود لديهم تركوا المال وجلا من الحساب مخافة أن لا يقوم خير المال بشره وأنت بغاية الأمن والحلال في دهرك مفقود‏.‏

تتكالب على الأوساخ ثم تزعم أنك تجمع المال من حلال ويحك‏!‏ أين الحلال فتجمعه‏.‏

وبعد‏:‏ فلو كان الحلال موجوداً لديك أما تخاف أن يتغبر عند الغنى قلبك وقد بلغنا أن بعض الصحابة كان يرث المال الحلال فيتركه مخافة أن يفسد قلبه أفتطمع أن يكون قلبك أنقى من قلوب الصحابة فلا يزول عن شيء من الخلق في أمرك وأحوالك لئن ظننت ذلك لقد أحسنت الظن بنفسك الأمارة بالسوء ويحك‏!‏ إني لك ناصح أرى لك أن تقنع بالبلغة ولا تجمع المال لأعمال البر ولا تتعرض للحساب فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ من نوقش الحساب عذب وقال عليه السلام ‏"‏ يؤتى برجل يوم القيامة وقد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حلال فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حلال فيقال له‏:‏ قف لعلك قصرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها وفرطت في شيء من ركوعها وسجودها ووضوئها فيقول‏:‏ لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في حلال ولم أضيع شيئاً فرضت علي فيقال‏:‏ لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب أو ثوب باهيت به فيقول‏:‏ لا يا رب لم أختل ولم أباه في شيء فيقال‏:‏ لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فيقول‏:‏ لا يا رب كسبت من حلال وأنفق في حلال ولم أضيع شيئاً مما فرضت علي ولم أختل ولم أباه ولم أضيع حق أحد أمرتني أن أعطيه قال‏:‏ فيجيء أولئك فيخاصمونه فيقولون‏:‏ يا رب أعطيته وأغنيته وجعلته بين أظهرنا وأمرته أن يعطينا فإن كان أعطاهم وما ضيع من ذلك شيئاً من الفرائض ولم يختل في شيء فيقال‏:‏ قف الآن هات شكر كل نعمة أنعمتها عليك من أكلة أو شربة أو لذة فلا يزال يسئل ويحك فمن ذا الذي يتعرض لهذه المسألة التي كانت لهذا الرجل الذي تقلب في الحلال وقام بالحقوق كلها وأدى الفرائض بحدودها حوسب هذه المحاسبة فكيف ترى يكون حال أمثالها الغرقى في فتن الدنيا وتخاليطها وشبانها وشهواتها وزينتها ويحك لأجل هذه المسائل يخاف المتقون أن يتلبسوا بالدنيا فرضوا بالكفاف منها وعملوا بأنواع البر من كسب المال فلك ويحك بهؤلاء الأخيار أسوة فإن أبيت ذلك وزعمت أنك بالغ من الورع والتقوى ولم تجمع المال إلا من حلال - بزعمك - للتعفف والبذل في سبيل الله ولم تنفق شيئاً من الحلال إلا بحق ولم يتغير بسبب المال قلبك عما يحب الله ولم تسخط الله في شيء من سرائرك وعلانيتك ويحك فإن كنب كذلك ولست كذلك فقد ينبغي لك أن ترضى بالبلغة وتعتزل ذوي الأموال إذا وقفوا للسؤال وتسق مع الرعيل الأول في زمرة المصطفى لا حبس عليك للمسألة والحساب فإما سلامة وإما عطب‏.‏

فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ يدخل صعاليك المهاجرين قبل أغنيائهم الجنية بخمسمائة عام وقال عليه السلام ‏"‏ يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيأكلون ويتمتعون والآخرون جثاة على ركبهم فيقولون قبلكم طلبتي أنتم حكام الناس وملوكهم فأروني ماذا صنعتم فيما أعطيتكم ‏.‏

وبلغنا أن بعض أهل العلم قال‏:‏ ما سرني أن لي حمر النعم ولا أكون في الرعيل الأول مع محمد عليه السلام وحزبه‏.‏

يا قوم فاستبقوا السباق مع المخفين في زمرة المرسلين عليهم السلام وكونوا وجلين من التخلف والانقطاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجل المتقين‏.‏

لقد بلغني أن بعض الصحابة وهو أبو بكر رضي الله عنه عطش فاستسقى فأتي بشربة من ماء وعسل فلما ذاقه خنقته العبرة ثم بكى وأبكى ثم مسح الدموع عن وجهه وذهب ليتكم فعاد في البكاء فلما أكثر البكاء قيل له‏:‏ أكل هذا من أجل هذه الشربة قال‏:‏ نعم بينا أنا ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه أحد في البيت غيري فجعل يدفع عن نفسه وهو يقول ‏"‏ إليك عني‏!‏ ‏"‏ فقلت له‏:‏ فداك أبي وأمي ما أرى بين يديك أحداً فمن تخاطب فقال ‏"‏ هذه الدنيا تطاولت إلي بعنقها ورأسها فقالت لي‏:‏ يا محمد خذني فقلت‏:‏ إليك عني فقالت‏:‏ إن تنج مني يا محمد فإنه لا ينجو مني من بعدك ‏"‏ فأخاف أن تكون هذه قد لحقتني تقطعني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا قوم فهؤلاء الأخبار بكوا وجلا أن تقطعهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شربة من حلال‏!‏ ويحك أنت في أنواع من النعم والشهوات من مكاسب السحت والشبهات لا تخشى الانقطاع أف لك ما أعظم جهلك‏!‏ ويحك فإن تخلفت في القيامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد المصطفى لتنظرن إلى أهوال جزعت منها الملائكة والأنبياء ولئن قصرت عن السباق فليطولن عليك اللحاق ولئن أردت الكثرة لتصيرن إلى حساب عسير ولئن لم تقنع بالقليل لتصيرن إلى وقوف طويل وصراخ وعويل ولئن رضيت بأحوال المتخلفين لتقطعن عن أصحاب اليمين وعن رسول رب العالمين ولتبطئن عن نعيم المتنعمين ولئن خالفت أحوال المتقين لتكونن من المحتسبين في أهوال يوم الدين‏.‏

فتدب رويحك ما سمعت وبعد‏.‏

فإن زعمت أنك في مثال خيار السلف قانع بالقليل زاهد في الحلال بذول لما لك مؤثر على نفسك لا تخشى الفقر ولا تدخر شيئاً لغدك مبغض للتكاثر والغنى راض بالفقر والبلاء فرح بالقلة والمسكنة مسرور بالذل والضعة كاره للعلو والرفعة قوي في أمرك لا يتغير عن الرشد قلبك قد حاسبت نفسك في الله وحكمت أمورك كلها على ما وافق رضوان الله ولن توقف في المسألة ولن يحاسب مثلك من المتقين‏.‏

وإنما تجمع المال الحلال للبذل في سبيل الله ويحك أيها المغرور فتدبر الأمر وأمعن النظر‏!‏ أما علمتأن ترك الاشتغال بالمال وفراغ القلب للذكر والتذكر والتذكار والفكر والاعتبار‏.‏

أسلم للدين وأيسر للحساب وأخف للمسألة وآمن من روعات القيامة وأجزل للثواب وأعلي لقدرك عند الله أضعافاً‏.‏

بلغنا عن بعض الصحابة أنه قال‏:‏ لو أن رجلاً في حجره دنانير يعطيها والآخر يذكر الله لكان الذاكر أفضل‏.‏

وسئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر قال تركه أبر به‏.‏

وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عن رجلين أحدهما طلب الدنيا حلالاً فأصابها فوصل بها رحمه وقدم لنفسه‏.‏

وأما الآخر فإنه جانبها فلم يطلبها ولم يتناولها فأيهما أفضل قال‏:‏ بعيد والله ما بينهما الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها‏.‏

ويحك فهذا الفضل لك بترك الدنيا على من طلبها ولك في العاجل إن تركت الاشتغال بالمال وإن ذلك أروح لبدنك وأقل لتعبك وأنعم لعيشك وأرضى لبالك وأقل لهمومك فما عذرك في جمع المال وأنت بترك المال أفضل ممن طلب المال لأعمال البر نعم وشغلك بذكر الله أفضل من بذل المال في سبيل الله فاجتمع لك راحة العاجل مع السلامة والفضل في الآجل‏.‏

وبعد‏:‏ فلو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى بنبيك إذ هداك الله به وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا‏.‏

ويحك‏!‏ تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا فسر مع لواء المصطفى سابقاً إلى جنة المأوى‏.‏

فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء وإذا استقرض لم يجد قرضاً وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه ولم يقدر على أن يكتسب ما

يغنيه يمسي مع ذلك ويصبح راضياً عن ربه ‏"‏ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ‏"‏ ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر وللفضل تجمعه لا‏!‏ ولكنك خوفاً من الفقر تجمعه وللنعم والزينة والتكاثر والفخر والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه ثم تزعم إنك لأعمال البر تجمع المال‏:‏ راقب الله واستحي من دعواك أيها المغرور‏.‏

ويحك إن كنت مفتوناً بحب المال والدنيا فكن مقراً أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة ومجانبة الفضول نعم وكن عن جمع المال مزرياً على نفسك معترفاً بإساءتك وجلا من الحساب فذلك أنجى لك وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال‏.‏

إخواني اعلموا أن دهر الصحابة كان الحال فيه موجوداً وكانوا مع ذلك من أورع الناس وأزهدهم في المباح لهم ونحن في دهر الحلال فيه مفقوداً وكيف لنا من الحلال مبلغ القوت وستر العورة‏.‏

فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه‏.‏

وبعد‏:‏ فأين لنا بمثل تقوى الصحابة وورعهم ومثل زهدهم واحتياطهم وأين لنا مثل ضمائرهم وحسن نياتهم دهينا ورب السماء بأدواء النفوس وأهوائها وعن قريب يكون الورود فيا سعادة المخفين يوم النشور وحزن طويل لأهل التكاثر والتخاليط وقد نصحت لكم إن قبلتم والقابلون فهذا قليل‏.‏

وفقنا الله وإياكم فكل خير برحمته آمين‏.‏

هذا آخر كلامه وفيه كفاية في إظهار فضل الفقر على الغنى ولا مزيد عليه‏.‏

ويشهد لذلك جميع الأخبار التي أوردناها في كتاب ذم الدنيا وفي كتاب الفقر والزهد‏.‏

ويشهد له أيضاً ما روي عن أبي أمامة الباهلي‏:‏ أن ثعلبة بن حاطب قال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً قال ‏"‏ يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً قال ‏"‏ يا ثعلبة أما لك في أسوة أما ترضى أن تكون مثل نبي الله تعالى أما والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة لسارت ‏"‏ قال‏:‏ والذي بعثك بالحق نبياً لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه ولأفعلن ولأفعلن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم ارزق ثعلبة مالاً ‏"‏ فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة ويدع ما سواهما ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الجماعة إلا الجمعة وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة فيسألهم عن الأخبار في المدينة وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال ‏"‏ ما فعل ثعلبة بن حاطب ‏"‏ فقيل يا رسول الله اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة وأخبر بأمره كله فقال ‏"‏ يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ‏"‏ قال وأنزل الله تعالى ‏"‏ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ‏"‏ وأنزل الله تعالى فرائض الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سليم على الصدقة وكتب لهما كتاباً بأخذ الصدقة وأمرهما أن يخرجا فيأخذا من المسلمين‏:‏ وقال ‏"‏ مرا بثعلبة بن حاطب وبفلان - رجل من بني سليم - وخذا صدقاتهما‏:‏ فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية‏!‏ انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي فانطلقا نحو السليمي فسمع بهما فقام إلى خيار أسنان إبله فعز لها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا‏:‏ لا يجب عليك ذلك وما نريد نأخذ هذا منك قال بلى خذوها فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال‏:‏ أروني كتابكما فنظر فيه فقال‏:‏ هذه أخت الجزية‏!‏ انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال ‏"‏ يا ويح ثعلبة ‏"‏ قبل أن يكلماه ودعا للسليمي فأخبراه بالذي صنع ثعلبة وبالذي صنع السليمي فأنزل الله تعالى في ثعلبة ‏"‏ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ‏"‏ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ما أنزل الله فيه فخرج حتى أتى ثعلبة فقال‏:‏ لا أم لك يا ثعلبة‏!‏ قد أنزل الله فيك كذا فخرج ثعلبة حتى أتي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال ‏"‏ إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك فجعل يحثو على التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هذا عملك أمرتك فلم تطعني ‏"‏ فلما أبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله فلما قبض صلى الله عليه وسلم جاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وجاء بها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وتوفي ثعلبة بعد في خلافه عثمان فهذا طغيان المال وشؤمه وقد عرفته من هذا الحديث ولأجل بركة الفقر وشؤم الغني آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر لنفسه ولأهل بيته حتى روى عن عمران بن حصين رضى الله عنه أنه قال‏:‏ كانت لي من رسول الله منزلة وجاه فقال ‏"‏ يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاهاً فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فقلت‏:‏ نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقام وقمت معه حتى وقفت بباب منزل فاطنة فقرع الباب وقال ‏"‏ السلام عليكم أأدخل ‏"‏ فقالت‏:‏ ادخل يا رسول الله قال أنا ومن معي ‏"‏ قالت ومن معك يا رسول الله فقال عمران بن حصين فقالت‏:‏ والذي بعثك بالحق نبياً ما علي إلا عباءة‏!‏ فقال اصنعي بها هكذا وهكذا وأشار بيده فقالت‏:‏ هذا جسدي فقد واريته فكيف برأسي فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال ‏"‏ شدي بها على رأسك ‏"‏ ثم أذنت له فدخل فقال ‏"‏ السلام عليك يا بنتاه كيف أصبحت ‏"‏ قالت‏:‏ أصبحت والله وجعة وزادني وجعاً على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أجهدني الجوع فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ‏"‏ لا تجزعي يا بنتاه فوالله ما ذقت طعاماً منذ ثلاثة وإني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها ‏"‏ أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة ‏"‏ فقالت‏:‏ فأين آسية امرأة فرعون ومريم ابنة فرعون فقال ‏"‏ آسية سيدة نساء عالمها ومريم سيد نساء عالمها وخديجة سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك إنكن في بيوت منن قصب لا أذى فيها ولا صخب ثم قال لها ‏"‏ اقنعي بابن عمك فواالله لقد زوجتك سيداً في الدنيا سيداً في الآخرة فانظر الآن إلى حال فاطمة رضي الله عنها وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف آثرت الفقر وتركت المال ومن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم وما ورد من أخبارهم وآثارهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات إذ أقل ما فيه من أداء الحقوق والتوقي من الشبهات والصرف إلى الخيرات اشتغال الهم بإصلاحه وانصرافه عن ذكر الله إذ لا ذكر إلا مع الفراغ ولا فراغ مع شغل المال‏.‏

وقد روي عن جرير عن ليث قال‏:‏ صحب رجل عيسى ابن مريم عليه السلام فقال‏:‏ أكون معك وأصحابك فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة فأكلا رغيفين وبقي رغيف ثالث فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف فقال للرجل‏:‏ من أخذ الرغيف فقال‏:‏ لا أدري قال‏:‏ فانطلق ومعه صاحبه فرأى ظبية ومعها خشفان لها قال‏:‏ فدعا أحدهما فأتاه فذبحه فاشتوى منه فأكل هو وذلك الرجل ثم قال للخشف‏:‏ ثم بإذن الله فقام فذهب فقال للرجل‏:‏ أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف فقال‏:‏ لا أدري ثم انتهيا إلى وادي ماء فأخذ عيسى بيد الرجل فمشيا على الماء فلما جاوزوا قال له أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف فقال لا أدري فانتهيا إلى مفازة فجلسا فأخذ عيسى عليه السلام يجمع تراباً وكثيباً ثم قال كن ذهباً بإذن الله تعالى فصار ذهباً فسمه ثلاثة أثلاث ثم قال ثلث لي وثلث لك وثلث لمن أخذ الرغيف فقال أنا الذي أخذت الرغيف فقال كله لك وفارقه عيسى عليه السلام فانتهى إليه رجلان في المفازة ومعه المال فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه فقال هو بيننا أثلاثاً فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري لنا طعاماً نأكله قال فبعثوا أحدهم فقال الذي بعث لأي شيء أقاسم هؤلاء هذا المال لكني أضع في هذا الطعام سماً فأقتلهما وآخذ المال وحدي قال ففعل وقال ذانك الرجلان لأي شيء نجعل لهذا ثلث المال ولكن إذا رجع قتلناه واقتسمنا المال بيننا قال فلما رجع إليهما قتلاه وأكلا الطعام فماتا فبقي ذلك المال في المفازة وأولئك الثلاثة عنده قتلى فمر بهم عيسى عليه وحكي أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس بأيديهم شيء مما يستمتع به الناس من دنياهم قد احتفروا قبرواً فإذا أصبحوا تعهدوا تلك القبور وكنسوها وصلوا عندها ورعوا البقل كما ترعى البهائم وقد قيض لهم في ذلك معايش من نبات الأرض وأرسل ذو القرنين إلى ملكهم فقال له أجب ذو القرنين فقال ما لي إليه حاجة فإن كان له حاجة فليأتني‏!‏ فقال ذو القرنين صدق فأقبل إليه ذو القرنين وقال له أرسلت إليك لتأتيني فأبيت فها أنا قد جئت فقال لو كان لي إليك حاجة لأتيتك فقال له ذو القرنين ما لي أراكم على حالة لم أر أحداً من الأمم عليها قال وما ذاك قال ليس لكم دنيا ولا شيء أفلا اتخذتم الذهب والفضة فاستمتعتم بهما قالوا إنما كرهناهما لأن أحداً لم يعط منهما شيئاً إلا تاقت نفسه ودعته إلى ما هو أفضل منه‏.‏

فقال ما بالكم قد احتقرتم قبوراً فإذا أصبحتم تعاهدتموها فكنستموها وصليتم عندها قالوا أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل‏.‏

قال وأراكم لا طعام لكم إلا البقل من الأرض‏.‏

أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها وركبتموها فاستمتعتم بها قالوا كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً لها ورأينا في نبات الأرض بلاغاً وإنما يكفي ابن أدنى العيش من الطعام وأيما ما جاوز الحنك من الطعام لم نجد له طعماً كائناً ما كان من الطعام ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين فتناول جمجمة فقال‏:‏ يا ذا القرنين أتدري من هذا قال‏:‏ لا ومن هو قال‏:‏ ملك من ملوك الأرض أعطاه الله سلطاناً على أهل الأرض فغشم وظلم وعتا فلما رأى الله سبحانه ذلك منه جسمه بالموت فصار كالحجر الملقى وقد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته‏.‏

ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال‏:‏ يا ذا القرنين هل تدري من هذا قال‏:‏ لا أدري ومن هو قال‏:‏ هذا ملك ملكه الله بعده قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالناس من الغشم والظلم والتجبر فتواضع وخشع لله عز وجل وأمر بالعدل في أهل مملكته فصار كما ترى قد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه في آخرته‏.‏

ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال‏:‏ وهذه الجمجمة قد كانت كهذين فانظر يا ذا القرنين ما أنت صانع فقال له ذو القرنين‏:‏ هل لك في صبحتي فأتخذك أخاً ووزيراً وشريكاً فيما أتاني الله من هذا المال قال‏:‏ ما أصلح أنا وأنت في مكان ولا أن نكون جميعاً قال ذو القرنين‏:‏ ولم قال‏:‏ من أجل أن الناس كلهم لك عدو ولي صديق قال‏:‏ ولم قال‏:‏ يعادونك لما في ديك من الملك والمال والدنيا‏!‏ ولا أجد أحداً يعاديني لرفضي لذلك ولما عندي من الحاجة وقلة الشيء قال‏:‏ فانصرف عنه ذو القرنين متعجباً منه ومتعظاً به فهذه الحكايات تدلك على آفات الغنى مع ما قدمناه من قبل وبالله التوفيق‏.‏

Partager cet article
Repost0
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :